إثر أفراد، والتي كنت أمثل فيها خاشعاً بين يدي الأنبياء والأولياء والقديسين؟ وكيف تنساها وقد وسعت جمهورية أفلاطون وطوبى مور وجزيرة مكدوجال؟
أما المقصورة، فأنت لا تذكرها، لأنها كانت المكان الحرام الذي مارست فيه فن الحياة، ومهدت للقصائد التي هجت بها نفسي ولم تنفرج عنها شفتاي أو يسجلها قلمي. . . وجمعت فيها بين الملائكة والشياطين، ولقيت فيها (ليليت) وبناتها، وتاييس في انطلاقها وفي توبتها، وأفروديت في خلابتها؛ وسمعت فيها أعذب اللثغات وأشهى الضحكات وأعمق الزفرات. . .! هنا، أيها الصديق، عجنت تجاربي، واختزنت ذكرياتي، وحبست أوهامي. . .! هنا أديت فرائض الشاعر وشعائر الحكيم!
والخزانة الصغيرة التي كانت وكأنها (باب جحا) لا تكاد تطلب منها شيئاً حتى تراه؟. . . الخزانة الصغيرة النفيسة التي لم يكن خادمها موكلا بغذاء البطون، وإنما كان مختصاً بغذاء العقول والقلوب؟. . . لقد أخذتها معي، فبطل السحر، وبقيت الصحائف والرفوف!
وأنت ألم تجلس معي تحت هذا المصباح؟ أنا موجود وأنت موجود، والمصباح كذلك موجود؛ ولكن (التغير) صيرني شخصاً آخر، وحولك إلى غيرك، ونور المصباح في عيوننا الآن ليس كما كان بالأمس!
واليوم أقتلع من هذه الدار المقدسة اقتلاعاً، فكم رددت جدرانها صلواتي، وسمعت ابتهالاتي، ووعت حكمتي، وحفظت قصائدي! وكم انشقت سقوفها عن طيف، وانفرجت نوافذها عن خيال، وانفتحت أبوابها حتى لعدو!
ألا قل لهذه الدار المقدسة ألا تبوح بأسرار وجداني إلا لصاحب وجدان، وألا تطلع أحداً على خزائن تجاربي إلا إذا كان من زمرة الإشراقيين، وألا تفتح كنوز ذكرياتي إلا لمن يصلح للقيام على البرج والمقصورة والمحراب!
ألا قل لهذه الدار المقدسة إنني ما غادرتها قالياً، ولا تركتها راضياً، وإنني مررت بها سأقف وأستوقف، وكلما ذكرتها سأبكي وأستبكي؛ وإنني - لولا التجمل - لفعلت ساعة الرحيل ما يفعل العجائز في الأضرحة، فقبلت المقابض والجدران!
وهكذا تراني أيها الأخ إذا حصلت على تلك المرآة لا أقنع من ماضي بلحظة واحدة، وإنما أريده كله لا أنقص منه حتى ساعات الألم!