للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الصغرى تعرضت لأشد أنواع المحنة والفاقة والعطش، وكان السلاجقة ينقضون عليهم ويحصدون منهم الألوف حتى لم يبق من تلك الجماهير الزاحفة إلا عدد صغير أمكنه الوصول إلى الديار السورية بعد أن كان عددهم يربو على نصف المليون

وحين وصلت الحملة الأولى كان سوء الحظ ملازماً لسوريا بسبب حكامها السلاجقة وهم من السذاجة بمكان، وكان يحارب بعضهم بعضاً فلم يلتفتوا إلى الخطر الصليبي الذي دهم البلاد. وقد أدت هذه الغفلة التي لا تفتقر إلى ضعف الجبهة الإسلامية ضعفاً لا يمكن وصفه إلا إذا تذكرنا تلك الهزيمة الشنعاء التي منى بها كربوغا صاحب الموصل أمام مدينة إنطاكية، فلقد كان يقود جيشاً عظيماً فيه أكثر من مائتي ألف محارب بعددهم وأقواتهم الكاملة، ومع ذلك فقد أنهزم أمام هياكل بشربة صليبية مزقتهم الفاقة وأهلكهم الجوع وحصدتهم الأمراض السارية، فسجل كربوغا بحماقته صفحة في التاريخ كلها خزي وعار

ولقد كان لهذه الهزيمة نتائج خطيرة جداً؛ فالصليبي الذي أنهكه التعب وأهلكه الجوع أخذ يتقوى بسرعة عجيبة ويستصغر من شأن المسلم الذي دبت فيه عوامل الضعف والخور فولى مدبراً ولم يعقب تاركاً البلاد لأشد أنواع الاعتساف والظلم

هكذا استصغر الصليبيون شأن المسلمين واحتقروا قوتهم المفككة وهزءوا بجبهتهم المتصدعة، فاخذوا المتصدعة، فاخذوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى، ولا جيش يقف في وجههم، إلا صوتاً ضعيفاً أرتفع من الخليفة الفاطمي بمصر يكلفهم الكف عن اكتساح المدن السورية، ويعرض عليهم صلحاً شريفاً إلا أن هذا الصوت تبدد بين قعقعة السيوف وهدير الجماهير المسيحية المتحمسة. وهكذا وصلت حملة الأمراء الأولى إلى فلسطين وملكت بيت المقدس. وحين دخلوا المدينة أراقوا دماء المسلمين أنهارا، ولجأ اليهود إلى معبدهم فأحرقوه، فماتوا وسط اللهيب. وفي خلال ثلاثة أيام قتلوا سبعين ألف مسلم، ولم يرعوا للشيوخ وقار سنهم، ولا للأطفال حرمة صغرهم، ولا للنساء ضعفهن؛ وهكذا برهنوا على همجية مستنكرة وقلوب متحجرة، لا تجد لها مثيلاً إلا عند أجدادهم القبائل المتبربرة أيام اكتساحهم الإمبراطورية الرومانية

وبعد الحملة الثانية التي انتهت بفشل ليس بعده فشل، رأى منظمو الحملات الصليبية المتاعب والأخطار الجسمية التي لاقاها الصليبيون في أسفارهم البرية السابقة، فعدلوا عنها

<<  <  ج:
ص:  >  >>