منها أحد من الناس حتى الذين وكلتهم المجتمعات الإنسانية منذ كانت إلى التجميل والتزيين وتذكير أبناء آدم بأنهم نفوس وألباب لها مطالب في بعض ساعاتها غير مطالب المعدات والجلود! وأكبر من مطالب السوائم والحشرات
ماذا نقول! أنقول السوائم والحشرات؟ كلا معاذ الله أن نتهم السوائم والحشرات بالاستغراق في المطاعم والمعدات، فإنها تعلمنا ما يجهله غلاة الاشتراكيين، ويريدون منا أن نغفل عنه ونتعلم نقيضه: تعلمنا أن الجمال، وأن الطعام ضرورة مفروضة وليس بالحياة كلها ولا بالشاغل الذي يستوعب كل حي في كل ساعة في كل عمل وكل مسعاة: تعلمنا إنها تغني وتمرح وتلعب وتحير الشمس والقمر، وتلوذ بالأعشاب والأزهار، ولا تدين نفسها بدين الخبز والمعدة إلا ريثما تفرغ من هذه السخرة والمفروضة عليها أو هذا العبء الذي يثقلها ويعطلها عن سرورها ونشوتها
ونحن إذ نقول هذا لا نجهل ما يقوله الاشتراكيون إذ يستخفون بالفنون والآداب التي تناط بالجمال الخالد ولا تناط بالمنافع الموقوتة. فإنهم يزعمون أن الجوع أولى بالتفكير والتعبير من هذه المطالب التي يسمونها بالكماليات وهي هي كما أسلفنا طلبة الحياة وطلبة جميع الأحياء
وحسن ما يقولون أو فليكن حسناً كما يشاءون، ولكن الأمة التي لا تستطيع أن تفرغ من حياة جميع أبنائها بعض ساعات لبعض هؤلاء الأبناء يشبعون فيها مطالب الجمال، هي أمة لا تستحق الطعام ولا تستحق الوجود. فبحسب الفرد عشر ساعات من الأربع والعشرين للكد والكدح وطلب المعاش؛ وبحسب الأمة تسعة ملايين وتسعمائة وتسعة وتسعون ألفاً من عشرة ملايين بين أفرادها يكدون ويكدحون لمعاشها. وغير كثير بعد ذلك ألف أو اقل من ألف يذكرونها الجمال ويعبرون لها عن أحلام الحياة التي يعطيها الطير والحشرة وتعطيها الضارية والبهيمة كل ما استخلصته من براثن الضرورات
لا بل نزيد على ذلك أن الألف الذين يذكرونها الجمال ويعبرون لها عن أحلام الحياة لا يخلون من فائدة في باب الخبز والطعام إذا نظرنا إلى النتائج والحقائق ولم نقصر النظر على البوادر والعناوين
فالشاعر الذي يفتن المرء بجمال الزهرة، يرفعه من معيشة الذل والشظف، ويجعل قناعته