في هذا الجزء بداية تقع في ست صفحات، وهي غاية في الضعف عند من يجهل، وغاية في القوة عند من يسرف، وربما كانت أعظم صفحات الكتاب، برغم ما فيها من غموض والتواء
وترجع عظمة هذه الصفحات إلى أنها تمثل ما يعاني الطفل الضرير من حيرة وارتباك، حين ينتقل من أرض إلى أرض، ومن مكان مألوف إلى مكان مجهول
كان الطفل يعرف داره بالريف، يعرفها بيديه، فلم تف عليه خافية من ملامح النوافذ والأبواب والسطوح، وكان يجد الأنس كل الأنس في حبس تلك الأشياء باهتمام والتفات، وسنرى كيف يفرح حين تسمح الظروف بأن يداعب الصندوق الذي أرسلته أمه إلى القاهرة لينتفع به أخوه، فسيكون ذلك الصندوق مراداً لسياحات كثيرة يتمتع بها الطفل حين يشاء، فيجلس عليه مرة، ويختبر أدراجه بيديه مرات، ولا يفوته في هذا الموقف أن يشير إشارة حزينة إلى أن أمه كانت تضع حُليها في هذا الصندوق يوم كان لها حُلي، فنعرف أن أمه وقع لها ما يقع لأمهاتنا في الريف من بيع (الصيغة) في بعض الظروف، ولأمهاتنا هنالك متاعب تستحق التأريخ
ترك الطفل داره بالريف، وأقبل على داره بالقاهرة، فكيف كان حاله في داره الجديدة؟ كيف؟ كيف؟
أقام أسبوعين وهو شارد اللب حيران: فهو يلمس جدراناً لا يعرف من أحوالها غير أوهام، ويسمع أصواتاً لم يكن له بمثلها عهد. ألم ينزعج للصوت المجهول؟ وأي صوت؟ صوت كريه بغيض لا يصل إلى أذنيه إلا بعد أن يلفح وهج النار وجهه من قرب، فما ذلك الصوت؟ سيعرف أنه قرقرة النرجيلة، فيهدأ ويستريح بعد أن مسه الخوف، وبعد أن طال تفكيره في السؤال ولم يصده غير الاستحياء
ولم يكن ذلك كل ما عاني في هذين الأسبوعين، فقد آذاه ما يحيط بداره الجديدة من روائح قذرة بغيضة لا تخلو من تعقيد. وسنعرف فيما بعد كيف صار يستبشر بهياج تلك الروائح، لأن هياجها أثرٌ من وقدة الشمس، وتلك الوقدة بشير بقودم الصيف، وهو في الصيف يرجع إلى داره بالريف، فيستريح من الأزهر والأزهريين، فقد نص بعبارة صريحة على أن