في خدمة الدولة، والدولة لا يعنيها من أمري شئ. إنها لتكافئني بالحسرة والخسران على ما أبذل من جهد ونصيب، هي ترهقني ليستريح غيري من أرباب الحسب والنسب وذوي الألقاب والأرقام الضخمة وما أشبه هؤلاء في
مراكزهم بأصحاب (العزب والوسايا) أو هم تماماً كالمهرجات في الهند، كلما تضخمت ثرواتهم، هوت على العب نوازل الفقر والخراب، والشعب هنا أمثالي من الموظفين الصغار، (فالقانون المالي) لا يطارد إلا أمثالي بالحرمان من كل شئ، حتى حق الاطمئنان إلى بقائي لأقوم بواجبي في هدوء وانتظام. . .!
لم أوافق على العودة ثانية من حيث فررت، وإن خفت أن يصيبني سوء من طول الوقت واشتداد البرد في الهزيع الأخير من الليل، وأنا رجل يؤثر البرد في جسمه وأعصابي معاً. . .
الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل، وعليّ أن أظل هكذا أربع ساعات طوال!!
وقبل أن أفكر في حل لسؤالي، لاح لي شبح في الظلام، يمش مشية الحذر ثم يمض مندفعاً إلى الأمام، ثم يتوقف وكأنه جندي يستكشف مواقع الأعداء، وهكذا بدا لي أمره غريباً فحاولت أن استكشف سره.
يا الله! إنها إنسانة تحمل وليداً وقد احتضنته إلى صدرها وألقت وشاحها الممزق على الخرق المهلهلة المحيطة بجسمه. سألتها عن حالها فتوقفت ولم تحر جواباً. . . ثيابها الريفية الممزقة، وروحها الحائرة، وعقدة لسانها الظاهرة وصمتها البليغ وأخيراً ربيع حياتها. . .! كل هذا كشف عن حقيقة حالها، هي تبيع نفسها من أجل المال، المال الذي تشتري به الخبز، هل أعطيها شيئاً مما وهبني الله؟ وهل يحل هذا الشيء مشكلتها؟ لا. . . لن أعطيها شيئاً. . .! ولم أشفق على حالها فأتركها فريسة لمجتمع مملوء بالذئاب الجائعة فقد تتعود الاستجداء في مقابل ما. . .! وليس الناس ملائكة. . .
هذه الإنسانة لها على الدولة حقوق أهونها أن تكسوها وتطعمها، وإلا فكيف يمكن أن تعيش عيشة شريفة في مجتمع يقتتل فيه الناس من أجل المليم؟ وإذا كان الحكام دائماً من الأغنياء الذين لا يتصورن كيف تجوع المعد الآدمية، فلترسل لهم هذه الإنسانة عبرة الحق لعلهم يهتدون. . . وفجأة ظهر الشرطي بعد نومة طويلة بمظهر اليقظ اللبيب فأمسكت أنفاسي