على أن موسَّيه قد أتخذ من بكائه وألمه وسيلة للتعليم كما أرى، فجاء طرف من شعره تعليمياً أبان فيه عن ضرورة الألم وأثره في النفس، ومحاسنه التي لا تنفد ومزاياه التي تهذب الروح وترهف الحس. يقول:(أن الرجل صانع والألم معلمه. والمرء لا يعرف نفسه إلا إذا تألم؛ ولا شيء كالألم يجعلنا عظماء ذوي شأن). ثم يدعو إلى الألم ويبرع في الدعاوة له وتزينه للناس. ويقولون إن أهل عصره كانوا يسيغون أشباه هذه الأقوال، ويعجبون بمن يذرف الدمع ويصعد الحسرات، وينظرون إلى الذين يقاسون آلام الحب وأسقام القلب نظرة إعجاب؛ بل كانوا يشتهون ذلك. فمن عانى التهيام والتحنان والسهر؛ والبكاء وما يدعو إليه الهوى فقد امتاز عن غيره بكثير
ولقد كان فلاسفة اليونان الأقدمين ينصحون للفتى إذا سألهم النصح (أن اعرف نفسك بنفسك) وكانوا يحسبون إن السعادة الكبرى في هذه الحروف الثلاثة. ثم تساءلوا: كيف يعرف المرء نفسه؟ فركب كلٌ مركباً؛ أما موسّيه فقال (ينبغي لك أن تتألم كي تدرك ما تريد، لأن المرء يعرف نفسه إذا تألم) وهو في كلامه هذا ينطق عن تجربة، ويعتقد أنه عرف نفسه وعبقريتها، لما أدمى الحب قلبه فتألم. وعندئذ علا صوت قلبه الشجي. وصوت القلب كما يقول يصل وحده إلى القلب، فهو يود أن يدع قلبه يتكلم دائماً في كل حال. لأن على الشاعر أن يصغي إلى قلبه ويدع عقله، وأن يبتغي رضا القلب قبل مرضات الناس، والحب إذا فجر الألم من القلب جعله غلاباً للمصاعب، عزاماً في المصائب، لأن الألم رمز القوة وهو سبيل الخلود. والخير الفرد الذي بقى لنا في الدنيا هو تذرافنا الدمع في بعض الأحايين
أفيكون حال خالد كحال موسَّيه؟
لا جرم أن ما نعلمه من حياة موسَّيه أوفر مما نعلمه عن حياة خالد. لا شك أن كلا أحب وكلا بكى، ولكن شتان ما بين البكاءين. ولقد ذكروا أن خالداً كان كاتباً في الجيش، وأنه كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها، وأن محمد بن عبد الملك ولاه الإعطاء في الثغور، فخرج إليها، فسمع في طريقه منشداً ينشد ومغنية تغني:
من كان ذا شجن بالشأم يطلبه ... ففي سوى الشأم أمسى الأهل والشجن
فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه؛ ثم أفاق مختلطاً واتصل ووسوس. أفيكون سبب