النظر الألمعي الذي هداه إلى أن يجعل حركة (الاشتراكية الوطنية) في وضع يتفق إلى حد ما مع رغبات الطبقة المتوسطة الرقيقة الحال الضعيفة الشأن في ألمانيا، لم يكن في واقع الأمر بأقل مما أصابه مرقص والمرقصيون الاشتراكيون الذين أسسوا ما رسموه من خطة للانقلاب الثوري الناجح على عقيدة قوامها أنه إذا تهيأ للطبقات الدنيا في جميع أنحاء العالم أن تتحد وتظفر من وحدتها بقوة لا تقف أمامها قوة، وبسلطان لا يقهره سلطان، وسعها أن تحطم أغلالها وتحقق آمالها. والفاشية والنازية قد طبعتا الظلم بطابع رسمي وهما تحسبان أنهما تذودان عن الملكية وتسهران على حمايتها. ولقد أعرب (دون سالفادور دي مدارياجا) عن حقيقة الأمر في أوجز عبارة ممكنة وبما مرن عليه من قوة البيان ودقة الأسلوب بقوله: (ليست الفاشية سوى صورة للشيوعية تراها العين على صفحة ماء يضطرب من الخوف).
وهنا وكما قصدت أن أبينه تتكشف الحقيقة عن أنه لم يكن بدعاً أن ينتظم هذه السلطات الاستبدادية المطلقة معنى واحد، هو أنها لا تحتمل للصحافة حرية، بل لا بد لها، أن تقضي عليها؛ وأولئك الرجال الذين لا يتأصل معنى الحرية في أنفسهم نتيجة لشعور سليم وإيمان متين غالب أمرهم أن يضيقوا بحرية الصحافة ذرعاً. إلا أننا من جهة أخرى نجد مجرد التشدق بالفضائل الديمقراطية والتمدح بالانضواء تحت لوائها، وهو لا ينهض بديلاً عن الإيمان بالحرية إيماناً صادقاً رشيداً. والحق أن فقر الفكرة السياسية وعقمها في الجماعة والأحزاب القديمة العهد، وفي الأمم التي ما زالت تنعم بحريتها هو من أعظم الشواهد العقلية على ما تكابده من خمول الشأن في زماننا هذا.
ومادام الناس قد كتب عليهم أن تستأثر المادة برغباتهم وتملك عليهم عقولهم ومشاعرهم فلا يعملون إلا لها، ولا يهتفون إلا بها، ويتأصل في معتقداتهم أنهم يعيشون للخبز وللخبز وحده، ومادام أغلب ظنهم أن بيد الاقتصاد السياسي مفاتيح الغيب التي تنفتح معها جميع الأبواب لتنفذ منها الحكمة الاقتصادية، فسوف لا تصبح لغة الحرية يوماً ما وهي لغتهم الشعبية. وسوف لا يتحدثون بها بذلك الأسلوب القوي السليم الذي يجري على لسان عظماء القادة ممن يقدرون قيمة الحرية حق قدرها، وإذ يعرفون لها فضلها يؤثرونها لذاتها. ومع ذلك قد تتكشف لهم الحقيقة عن أولئك القوم من رعاع الناس المحتقرين، ومن أعداء البشر من الممولين النهمين، ومن العمال المستضعفين ما برحوا وهم ينعمون بنصيب كاف من