الأنين لعلة يشفى. وهكذا يقال إن ضباباً رمادياً أحاط بحياة القوم، حاملاً معه الكآبة. هذه هي المشاهد التي وقف عليها - تشيكوف - براعته، ولم تنتج روسيا مثله كاتباً استطاع أن يصور لنا اضطرابات هذه الفئة من الناس التي كانت تمشي خابطة على وجهها بدون فجر ولا رجاء.
يقول أحد أبطاله مفسراً الأزمة الخلقية:(ليس لي من العمر إلا ست وعشرون، ولكن أراني لا أجهل أن الوجود يمشي بلا غاية، خالياً من أي غرض، وكل شيء فيه باطل زائل. تتشابه فيه حياة ساكن جزيرة (سخالين) مع حياة ساكن (بنس)؛ والفرق بين دماغ (كانت) ودماغ ذبابة ما لبيس له قيمة حقيقية، وأن لا شخص في هذا الكون على ضلال ولا على صواب)
وفكرة - العدمية - بكل ظواهرها المروعة تنعكس كثيراً ما في آثار تشيكوف، وأقصوصة (القبلة) ليست إلا وجهاً من هذه الظواهر. فالعريف (ريابوفيت) بتأثير قبلة غير مقصودة لبث بحلم بالحب طوال صيف؛ فهو ينتظر متألماً ساعة العودة ليرى جميلته المجهولة، لكن حلمه لم يكن إلا وهماً، إذ لم يكن هنالك أحد ينتظره. وبينما كان في أصيل يوم يسرح على ضفة جدول استسلم لتأملات تتفجر من قلبه: (الماء يفر إلى حيث لا يعلم أحد، ولا لماذا. إنه يفر على الحالة التي مرّ بها في أيار الغابر. إنه عبر من الجدول إلى النهر الكبير، ومن النهر الكبير إلى البحر، ثم إنه تبخّر واستطار، ثم استحال مطراً. فهل أرى ذات الماء يركض جديداً على مرأى من عيني؟! ما غاية ذلك ولماذا؟! وهكذا أصبحت الحياة عند هذا العريف لغزاً معمي لا يدركه العقل، تمشي على غير غاية، هائمة بدون قرار.
وقد أعطانا تشيكوف نماذج عدة لأفراد انتقاهم من بيئات مختلفة؛ فكأنما يأخذ القارئ بيده، يقوده إلى أي مكان يستطيع أن يعرض عليه فيه صوراً من المجتمع الروسي الحديث: في الحقل أو المصنع أو الطريق. وهو بعد ذلك لا يستقر في موقف، ومهما كانت المواطن التي يرتادها القارئ وراء آثاره لا يخرج منها إلا مشبعاً بهذه العزلة الروسية المؤلمة.
يقدم لنا تشيكوف مثلاً للحبة الضالة فتى كثير الأحلام، يضع رأسه حيث تطلع عليه منه أية فكرة جديدة. قد بحث عبثاً طوال حياته عن شكل عملي يلائم مثله الأعلى الذي يراه، والآن تركه القدر أباً أو ترك له ابنة تكرهه على كسب قوتها وقوته، هو يحب ابنته، ولا يفتأ