للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

طلب منه الطعام يوماً فقال ما عندي إلا خبز وبقل: (ويحك! وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟)

لذلك كله عالج الدين مشكلة الرغيف بتنظيم المعاملات، وفرض الصدقات، وكفكفة النفوس الشرهة بالقناعة والعفة والحدود؛ واتقت الدول جرائر الرغيف بالعلم والنظام والإصلاح والاستعمار؛ فإذا غلب الكفر أو طغت الأثرة؛ شبت الثورة أو نشبت الحرب. ذلك أن الفرد أو الشعب يصاب في حريته فيصبر، ويؤذي في كرامته فيستكين، ويفتن عن عقيدته فيرضى؛ ولكنه إذا حرم الرغيف انقلب ضارياً كالوحش، أو جازفاً كالبركان، لا يذر من شيء أتى عليه إلا جعله كالرميم.

هذه مصر هبة النيل وجنة الشرق وملتقى البحرين والبرين طالما عركتها الخطوب فاستكانت للقدر، واستعانت بالصبر، ومضت على حسن ظنها بالله تتربص الدوائر بالمغير، وترجو الغوائل للظالم، حتى إذا أخذت هذه الحرب الأكول تنازعها الرغيف، أصبحت كلها لساناً واحداً يتضاغى مخافة انقطاعه، فلا تجد في الأمة ولا في الحكومة إلا سائلاً عنه، أو شاكياً منه، أو باحثاً فيه، أو ساعياً له؛ وكأنما اختُزلت لغات الناس فأصبحت لا تعدو ألفاظ التخزين والتموين، والإحصاء والاستيلاء، والاستيراد والاستكثار، والمطاحن والمخابز، وما يدخل في هالة الرغيف النورية من مادة وأدب! فليت شعري إلام تأول الحال إذا تأزم الأمر، وضاقت موارد الرزق، فلا أرض تغل ما يكفي، ولا بحر يسد ما ينقص؟! تمثيل الحال في الخيال مرعب، فما بالك بتقرير الحس وتصوير الواقع؟

الأمر جد لا مساغ للبعث فيه، والخطر بادٍ فلا مناص من الاعتراف به، والتقصير ثابت فلا سبيل إلى التنصل منه. وإذا فاتنا الاستبصار للمستقبل، فلن يفوتنا الاعتبار بالحاضر. وإذا عجزت السياسة أن تحل مشكلة الرغيف فلا أزعم أن يحلها الأدب. وكل ما يستطيع الأديب أن يقوله للسياسي أن مشكلة التموين لا يحلها أن يكون لها وزارة، ولا أن تُقصر على أمورها السياسة والإدارة؛ إنما يحلها أداء الحاكم للواجب، وقضاء المحكوم للحق. وأقسم بالله جَهْدَ القَسم لو أن القائمين على شؤون الناس بسطوا لها الأيدي النظيفة، وتحروا فيها الأوجه الصالحة؛ ثم ساووا بين العامة والخاصة في القسمة، وعدلوا بين الأقوياء والضعفاء في التكليف، وأيقظوا العيون لخفايا الحيل، وأنضجوا الآراء لمشتبهات الأمور؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>