بدأ الإسلام في رجل وامرأة وغلام، ثم زاد حراً وعبداً، أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها، مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع؟ فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ.
ولبث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة لا يبغيه قومه إلا شراً، على أنه دائب يطلب ثم لا يجد، ويعرض ثم لا يقبل منه، ويخفق ثم لا يعتريه اليأس، ويجهد ثم لا يتخونه الملل، ويستمر ماضياً لا يتحرف، ومعتزماً لا يتحول، أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية، أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها وثبت عليها، وكانت ثلاث عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفل ولد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث حتى تسلمته الرجولة الكاملة بمعانيها، من الطفولة الكاملة بوسائلها؟ أفليس هذا فصلاً فلسفياً دقيقاً يعلم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم، غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضع النافع قبل المنتفع، والمصلح قبل المقلد. وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع؟
ثم أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليعب منها تياره، فتدفعه في مجراه بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا - الثبات على الخطوة المتقدمة وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق؛ والتبرؤ من الأثرة وإن شحت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وغلب، وحمل الناس على محض الخير وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل وإن لم يأت بشيء؛ والواجب للواجب وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلاً وإن حطمه كل ما حوله؟
ثم هي هي البراهين القائمة للدر قيام المنارة في الساحل - على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، تثبت ببرهان الفلسفة وعلوم النفس أنه روح وغاياتها المحتومة بالقدر، لا جسم ووسائله المتغلبة بالطبيعة، ولو كان رجلاً ابتعثته نفسه لتحمل الحيل لسياسته، ولأحدث طمعاً من كل مطمع، ولركد مع الحوادث وهب، ولما استمر طوال هذه المدة لا يتجه وهو فرد إلا اتجاه الإنسانية كلها كأنما هو هي.