للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يضرب في حشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستِتمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرَّقةَ، فخشيتُ أن يمضي به الحزن على غَلْوائه، فقلت له:

مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر. أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأً يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمراً يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا ريب، شَقِي بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرنَّي يا أبا محمد! هل ابتُلِىَ الناس فيما ابتلُوا به بما هو أفضع من فجيعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدَّك الصديق فرد الناس إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزناً على صاحبه ورفيقه؛ فعلم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يجوز عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالح الذي يرى الدنيا بعينيْ زائل، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأَّبى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟

قال ابن أبي عتيق:

حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمين يا ابن أبي ربيعه إلا ما علمت. لقد عَجمت مني الحوادث صخرة مُلمْلمة لا تضرع. كم سحرْت من الدنيا وأحداثها، فجعلت أطويها في دعابتي طيَّ المُلاءة! كنت أتخففُ منها بنشوة أحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمَّ لطار فيها كما تطير خافية من جناح. ولكني اليوم. . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمت لله مُقَبِل أمري ومُدْبرَه يصرَّفه شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المعُني لا يزال يخفق بالذكرى؛ أفأنت منكرٌ علىّ يا عمر أن أذكرها نسيماً رَفرفَ بين الجوانح والقلب؟ أني لي أن ألوِيَ النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئاً إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أأراك تَلْحاني على اَلَجزَع، وما على ظهرُها أشقى ممنُ يصبح ليفتقد في نهاره حُلماً ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومها كالذي تلوم؟ وكم

<<  <  ج:
ص:  >  >>