أولادهم بدل مقابل جنيه أو جنيهين لكل ولد. ويفوزون بطلبهم عادة مع إنه حب البنوة سائد عند المصريين بقدر حب الأبناء لوالديهم. ويكره أغلب الوالدين مفارقة أولادهم عندما يجندون خاصة كما يدل على ذلك الوسائل التي يعمدون إليها لمنع تجنيدهم. وقد لاحظت أثناء زيارتي الثانية لمصر أنك لا تكاد تجد في أي قرية شاباً صحيح الجسم ليس بأسنانه كسر (حتى لا يمكنه أن يقرض الفشكة) أو بأصابعه أو بعينيه إصابة أو عمى حتى لا يجند. ويتخذ النساء المتقدمات في السن وغيرهن هذا الأمر حرفة منتظمة، فيدرن على القرى لتنفيذ هذه العمليات؛ وقد يقوم أبوا الولد أنفسهما بهذا الأمر. ويبدو مما قيل آنفاً أن العاطفة ليست وحدها دائماً السبب الذي يدفع أهل الطفل إلى الالتجاء إلى مثل هذه الوسائل حتى لا يحرموا أطفالهم.
ولا يمكن تصوير فلاحي مصر من حيث حالتهم المنزلية والاجتماعية وشمائلهم صورة ملائمة. ويشبه الفلاحون على أسوأ الاعتبارات أسلافهم البدو دون أن ينعموا بكثير من فضائل أهل الصحراء إلا في درجة منحطة. وكثيراً ما أحدث ما ورثوه عن أجدادهم أسوأ تأثير في حياتهم الداخلية. وقد ذكرنا من قبل أن المصريين انحدروا من عدة قبائل سكنت مصر في عصور مختلفة، واصهروا إلى الأقباط، وان التمييز بين القبائل لا يزال قائماً بين سكان القرى في القطر كله. وقد انشعبت بمرور السنين سلالة كل قبيلة من المقيمين إلى عدة فروع؛ وسميت هذه القبائل الصغيرة بأسماء متميزة أطلقت على القرية أو القرى أو المركز الذي يقيمون فيه. ولم يحتفظ الذين أقاموا طويلاً في مصر بالعادات البدوية الكثيرة، ولم يصونوا نقاوة جنسهم، وإنما اصهروا إلى الأقباط الداخلين في دين الإسلام أو سلالتهم؛ ولذلك تحتقرهم القبائل التي أقامت في مصر بعدهم فيسمونهم ازدراء (فلاحين) بينما يجعلون لأنفسهم تسمية العرب أو البدو؛ ويتزوج هؤلاء الآخرون متى شاءوا من بنات الأولين، ولكنهم لا يزوجون بناتهم لهم؛ ويثأرون للدم إذا قتل شخص من قبيلة وضيعة أحدهم بقتل اثنين أو ثلاثة أو أربعة؛ وقد أشير إلى تلك الشريعة البدوية الوحشية الخاصة بثأر الدم وسيادتها بين سكان قرى مصر في فصل لاحق. فيقتل أحد أقارب القتيل من ذريته أو من سلالة الجد الأكبر لأبيه القاتل، أو أحد الأقارب المذكورين من ناحيته؛ ولذلك كثيراً ما ينشب القتال بين قبيلتي القاتل والقتيل، وقد يستمر أو يتجدد كل حين عدة سنين.