أكن له في نفسي وداً وإعجاباً ليتيسر لي أن أزن الكلام بقيمته لا بمكانة قائله. ولكن كان كل بيت تقع العين عليه يذكر بأن بيت الشبيبي تتمثل فيه الأديب الوقور جالساً جلسته، متحدثاً حديثه؛ فلم أستطع أن أخادع نفسي عن الشبيبي ساعة واحدة أصف فيها الديوان. قلت لنفسي كيف الحكم وقد قال النقاد ينبغي ألا يكون لمعرفة الإنسان وميله أثر في حكمه؟ قالت: قد حكمت ولم تشعر. قلت كيف؟ قالت: ألست تقول إن كلام الشبيبي يذكر به، ويصدق الحديث عنه؟ وخير الكلام ما شف عن صاحبه ومثله لقارئه.
- ١ -
يفيض قلب الشبيبي بحب قومه العرب، وينطق شعره بالغضب لهم والتوجع لما أصابهم والفخر بماضيهم والثقة بمستقبلهم. وحسبك بقصيدته القافية التي يتناشدها أهل الشام:
ببغداد أشتاق العراق وإنني ... إلى الكرخ من بغداد جمُّ التشوق
فما أنا في أرض الشام بمشئم ... ولا أنا في أرض العراق بمعرق
هما وطنٌ فرد وقد فرقوهما= (رمى الله بالتشتيت شمل المفرق)
وشد ما يعجبني ويطربني قوله فيها:
وما الأرض - لولا أربُع عربية - ... سوى عطنٍ بالعبقرية ضّيق
وقد ذكرني قوله في حلوان العراق:
فيا ليتها كانت رباً عربية ... مكرّمة منهن رضَوى وثهلان
بقصيدة أبي الطيب في شعب بوان حينما افتقد وجه العربي ويده ولسانه ثم قال:
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... ليبقُ الثرد صينيّ الجفان
وكذلك يذكر بأبي الطيب قوله:
وافت عجائبُ أجيال وأعجبها ... إذا تأملت، جيلٌ عُربه عجم
واقرأ قصيدته: (دمشق وبغداد)، وقف على هذا البيت الذي فاضت فيه أنهر العرب الأربعة:
برَدَى وأودية الفرات ودجلة ... والنيل غصَّ بمائكِ الوُراد
ويتبين الإباء العربي حتى في غزله:
تعفّف بعد العجز قوم فما حكموا ... خلائق أقوام متى قدروا عفّوا