للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

له مثل هذه الحواس المحدود إدراكها، ومثل هذه القوة العاقلة التي يسرع التعب إليها قبل بدئها في البحث عما هي وراءه من استكشاف المجاهيل!

ونبّهتني هذه الخواطر إلى ما للجهل من فائدة وفضل على الناس، واذكرني هذا بالنظرية التي تقول: إن كل شيءٍ خيّر في الطبيعة إذا وُضِع في موضعه وأُحِلّ في المكان المناسب له. فالجهل مثلاً - وهو موضوعنا - يثير فضول القوى العاقلة لدى الناس، ويعقّد أمامهم مشاكل عويصة يعالجون حلها، فكثيراً ما يضلون وقليلاً ما يهتدون. ولكنهم - وعلى أية حالة كانوا - تفيض السعادة والراحة على قلوبهم حين القصور، وحين البلوغ على حد سواء!!

وأذكر أني كنت ذات مرة في زيارة لخرائب بابل، وكنت وقتئذاك صبياً يحسب العلم وقفاً على المسّنين. فسألت أحد الأدلاء - وكان شيخاً - وكان جاهلاً أميّاً - عما صيّر هؤلاء الآدميين الذين كانوا مثلنا من لحم ودم - حجارة! فأجاب أو أجابت بديهته - فما كان عنده عقل يجيب -: غضب الله! وقد ضللت أعتقد بصحة هذه الجملة التي انطلق بها لسان دليلي العامي حتى دخلت المدرسة فعُلَمْت غير هذا، ووعيت في حافظتي كلاماً غير كلام الدليل، علمياً منطقياً، تقوم على تأييده والبرهنة على صحته حجج قواطع. فاستسخفت ذلك الساذج، واستسخفتْ نفس ذلك الطفل الذي لم يحاكم القول الذي سمع؛ ولكني أشهد الله (تعالى)، على أن نفسي اليوم لا تستطيب معنى أحلى، ولا جملة أبلغ، ولا فلسفة أعلى مما انطلقت به بديهية الرجل الجهول!! هل ترى العالم المنقّبَ الفاضل حين يدخل خرائب البابليين يَعْمُرُ صدره بالإيمان، وترتفع روحه إلى أجواء من السعادة العلوية، وتتملكه الروعة والجلال كهذا الدليل الجاهل الأمي

الجواب عندي (لا)!!

لأني من المؤمنين بأن للجهل نفعاً، وأن شأنه في هذا شأن كل ما أبدعته الكف الصَّناعُ الخالقة الجليلة في هذا الكون الجميل. . . وهنا بانت لنا عن بعد دائرة جوازات السفر على الحدود الفلسطينية فأبدلتنا بأفكارنا غيرها، وتبددت هذه الأخيلة وكان ما كان. . .

فإلى الأستاذ المازني الجليل نسوق سؤالاً عن نفع الجهل؛ فقد كان حدثنا بحديث من ذلك قبل سنين. فإن رأى - أطال الله بقاءَه، وجعلنا من كل سوءٍ فداءَه - ألاّ يبخل بهذه الآراء

<<  <  ج:
ص:  >  >>