ولقد كانت قراءة ليوباردي وزميليه في مقدمة القراءات المحبوبة عندي إلى ما قبل الثلاثين. ثم بقيت لها قيمتها الفنية الأدبية وبطل الولع بها والاشتياق إليها. فهي اليوم عندي في مقام التقدير والذكرى، وليست في مقام الاصطفاء والمفاجأة لم هذا؟
لسبب يخيل إلى بعض الناس أنه مناقض للمعقول والمنظور، وهو أن الشباب أميل إلى التشاؤم من الكهولة والشيخوخة، وأقرب إلى الطعن في محاسن الحياة والجهل بتلك المحاسن وهي بين يديه
ولا مناقضة للمعقول في هذا بل المناقض للمعقول أن يكون الأمر على خلاف هذا
فالشاب يخرج من بيته إلى معترك الحياة فيصطدم بالشدائد التي لم يعرفها بين الأب والأم والإخوان والأقربين، ويرى أخلاقاً غير ما عهد وألف وانتظر: يرى أناساً ينزعون ما في يده وقد كان يرى أناساً يعطونه ما في أيديهم، ويعلم أن نجاحه يغيظ قوماً يعاشرهم ويعاشرونه وقد كان يعلم أن نجاحه فرحة القلوب وقرة العيون، ويرجو كثيراً ولا يظفر بغير القليل. والمرء إذا انتظر مائة ووصل إلى عشرين ناقم ساخط متبرم، ولكنه إذا انتظر خمسة ووصل إلى عشرة يشكر ويرضى ويستريح
هذا سبب من أسباب الشكاية والتشاؤم في الشباب يزول أو يضعف كلما تقدمت به السن وجاوز أيام الدلال على الحياة
وسبب آخر أن الشباب يلتهم ما يتناوله فلا يفرق بين الطعام الفاخر والطعام المزهود فيه، كالمعدة القوية التي تستخرج الغذاء من كل الطعام، أو كالمعدة الجائعة يتساوى لديها الخبز القفار والمائدة المنتقاة
فهو يظفر بالمتعة ولا يدرى ما هي المتعة ولا يقيس الفارق بينها وبين غيرها بمقياس صحيح
وهذا سبب من أسباب الشكاية يضاف إلى ما تقدم فيغري بالتشاؤم في أوائل الحياة
وسبب غير هذا وذاك أن طول العشرة داع من دواعي الألفة والمودة وإن تباينت المشارب في أول اتصال. فإذا كانت الحياة قرينة ناشزة والشاب قريناً غضوباً في بداية الزواج فقد تطول العشرة فيقل النشوز ويقل الغضب، ويأخذ كل من الزوجين صاحبه على علاته، ويصل بالإرضاء والإغضاء إلى تسويغ الكريه وقبول المرفوض واستكثار القليل