بلد بعيد، وفقرات من مواضيع في كتابين قديمين، فقطّع ذلك خمسين قطعة، ثم عاد فوصل بين ما قطّع بجمل من عنده، وقدم فيها وأخر، ثم رقَّم هذه الجمل وجعل لكل رقم حاشية تدل على صفحة مصدره - تشبهاً بما فهم من الأسلوب الحديث - فاستوى له بإذن الله ما سماه بحثاً علمياً، فإذا بك تجد كلاماً لا انسجام بين أجزائه ولا تساوق بين أفكاره يلعن بعضه بعضاً، فإذا قلت له: إنه غير مفهوم، أجابك: هذا هو الأسلوب العلمي
وذلك - عافاك الله - لا أديب ولا كاتب ولا باحث، لكنه لغوي يا سيدي، يعني إنه يسود صفحات بالركاكة والابتذال والمط والتطويل والسخف، حتى إذا واتاك صبرك وانتهيت منها قراءة، وقذفت بالمجلة أرضاً، وأغمضت عينيك تستعيد ما مرّ بك. . . إذا كل ذلك: كلام في أن (وابور الزلط) من عامية مصر، أو أن (الجسر) في عامية الشام هو (الكبري) في عامية مصر
وإن كان محاضراً لبث أسبوعين (يبشر) بمحاضرته ويدعو لها ويلقاك في الطريق، أو حافلة الترام، أو عند الوراق، أو حاملاً حاجة، أو منطلقاً عجلان، أو منقلباً إلى دارك. . . فاستوقفك ساعة وحدثك بمحاضرته وما حوت من نكات، وأكثر عليك من حركاته و (تهريجه)، حتى يقتلك قتلاً، فلا يتركك إلا وقد أخذ عليك عهداً: لتحضرنها أنت واهلك وأصحابك وجميع معارفك، فإذا وفيت بعهدك، فويل لك من نفسك، وويل لأصحابك: لقد شبعتم خجلاً من أنفسكم وتهكماً، وأوسعكم المحاضر الكريم غثاثة وثقلاً
وهذا نمط آخر خير مما تقدم: لا أديب ولا كاتب ولا باحث ولا لغوي ولا محاضر ولا شيء من الأشياء مما يبرر أثره إلى الوجود، ولعله يحسن أن يسلخ أهاجي الأموات يهجو بها الأحياء، ولعله يتمدح إلى الموسيقى باطلاعه على التاريخ، والى الكيميائي بباعة في الدين، والى الرياضي بحذقه النحو، والى التاجر بأنه شاعر. . . تطمح نفسه إلى أن يسند دعاواه بالانتساب إلي أي جماعة ذات شأن - ولو رسمًّيا - في العلم أو الأدب أو الصحافة، فلا ترى الجماعات فيه شيئاً يسيغ أن يسلكه في زمرها، فيشتد على أفرادها بالشتم والهجاء حتى تتحقق رغبته، وما كانت لتتحقق لولا خراب الضمير الأدبي في بعض الأفراد
وآخرون من غير هذه الأنماط: منهم في الشام، ومنهم في العراق، ومنهم في مصر، أهمل