للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بل سعادتي، بل دنياي!. . . بدأت افهم الأشياء وأقدرها. . . الأيام التي عشتها أخيراً غشّت على عقلي. . . ولكني انتهيت بأن وجدت نفسي. .

للمرة الأولى منذ شهر، عزمت على أن اشغل نفسي بشيء، أن التمس مكتبتي، أن أنظر في بعض الأوراق، أن أفكر. . . ولكني لم افعل شيئاً من ذلك. . . بل عدت إلى المقبرة. . . كان الليل قد شرع ينشر أجنحة السوء، ولم يكن في المقبرة أحد. . . للمرة الأولى جثوت على ضريحها، وطفقت اقبل الأرض التي حنت عليها فوارتها بين تضاعيفها. . . أخذت أبكي: نعم بكيت لا صوت. . . لا نأمة. . . صمت رهيب. . . هواء ساكن، بارد. . . ثم نهضت التمس الخروج بين صفوف الأضرحة من جهة الكنيسة. . . لا أحد. . . كان القمر يسكب ضوئه على الصلبان والأحجار بصورة لا يمكن أن يفوتني معها وجود شخص ما. . . فلما هممت بالذهاب، صادفت امرأة في نقاب الحزن، وفي يدها منديل. . . إني أعرف النساء. . . كانت الطريق العريضة المؤدية إلى المدينة بيضاء تحت أشعة القمر، وكنت اسمع وقع خطواتي، لم يكن هنالك من يتبعني، وهكذا بلغت منفرداً أطراف المدينة حيث استقبلتني منازل الضواحي، والفنادق، وتردّدت في أذني أصداء الجلبة والضوضاء. . .

أشعر بشيء من التحسن في حالتي. . . الآن وقد عدت، أحس برغبة ملحة ذهبت عن خاطري منذ عهد طويل، أحس برغبة قوية لفتح نافذتي، لأسمع جلبة الشارع، بل لأسمع أصواتاً بشرية، ولكن الليل شاخ وصمت. . . وأناملي تكاد تجمد وأنا أخط هذه السطور. . . والضوء يضطرب رغم سكون الهواء. . .

كنت مستنداً إلى جدار المقبرة وكانت تحجبني عنه صفصافة ضخمة، وقد بكّرت كثيراً لأكون الأول، فأدركت المقبرة وفي غرفة الحضار مصباح. . . توافد بعدي كثيرون، نساء على الأخص. . . وفجأة. . . هو!. . .

اقترب بهدوء من المكان المعتاد، بعينيه الواسعتين، الحزينتين، ثم جثا على قدميه، فبذلت قصارى جهودي لأراه جيداً. . . وإذا به يجثو على ضريح امرأته!!!

انقطعت عن كل حركة. . . وشعرت بأنفاسي تتردد لاهفة، متقطعة!. . . وأحسست بأصابعي تتشنج على أغصان الصفصافة. . . مرت دقائق لم يكن يصلي. . . ولم يكن يبكي. . . وأخيراً نهض وراح يطوف بين الأضرحة بدون وجهة معينة كما كان من عادته

<<  <  ج:
ص:  >  >>