القانون، وكان دينه عبادة حروفه، بل لأنقذ من خلال الفكر إلى مقصد القوانين وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من الباطل، وأنضو عن المتقاضيين ثياب التصنع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيّن، وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولابد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبها - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بيّن ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل أعلام الموقعين، ولكن لا سبيل لنا إلى الأخذ بها إلا أن تنظر وزارة العدل في دمشق في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع وتتخذه أساسا لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور الذين صارت لهم جماعات ومراتب وأجور مسعّرة ودخل فيهم من يعتقد الناظر إليه أنه من الأولياء، ويجده مباحثه من العلماء، وهذا شر استطار شروره، وعم الأنام خبره، وشملهم ضرره - فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه أو هو يعلم فساد البيّنة ثم يضطر إلى الحكم بها؟
هذا وقد نجاني الله بما ركب في طبعي من الحدة في الخلق والشدة في الحق من منغصات القضاء، من الوساطات والالتماسات والهدايا والرشوات والولائم والدعوات، وسلمني من ذلك كله أني لا أعرف في الحق لطفاً ولا مجاملة ولا خجلاً ولا فرقاً وأرجو دوام ذلك.
أما (علو المنزّلة) فلأن لاسم القاضي دون الحاكم المدني وإن علت رتبته وزادت وظيفته، له في الأسماع رنة إكبار، وفي القلوب صورة إعظام، وله هيبة وله جلال، خلع ذلك المجد عليه أولئك الأبطال نجوم فلك العدل، ودراريه الهاديات، أفذاذ الدهر وأبكار الزمان، الذين يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الإنس والجن، وأن نجعل قضاءنا بهم أول ما نعقد عليه الخناصر إذا عددنا المفاخر، وما زال قضاء كل أمة أول مفاخرها، قضاتنا الأولون شريح وإياس وشريك وأبو يوسف والعز بن عبد السلام ومنذر بن سعيد ومن أذكر الآن ومن لا أذكر ممن يقصر عنه العد، ويضيق الحصر.
ولولا أني عامل على تأليف محاضرة وافية بهذا الغرض ولا يجمل بي إذاعتها بالنشر قبل نشرها بالتلاوة لأفضت في هذا الموضوع إفاضة من وجد مجال القول واسعاً، والمقْول