تبلغ المداعبة الحلوة، وتغلظ حتى تصل إلى الشتم القبيح، وكل ذلك يصل إلى نفسي فيحدث فيها آثارا مختلفة، ولكنها على اختلافها تتفق في شيء واحد هو الطرافة لأني لم أكن تعودت ركوب العربات، ثم يقف السائق فجأة وننزل من العربة، وإذا صاحبي يقول لي لم نبلغ البيت بعد، ولكننا انتهينا إلى حيث لا تستطيع العربة أن تمضي، فهل تعودت التصعيد والرقي في الجبل، فأنا لا أحب أن أسكن في السهل المنبطح فأكون كغيري من الناس، وإنما أحب أن أشرف على القاهرة وأن أخيل إلى نفسي أني لست منغمسا فيها وأني أدخلها إذا غدوت إلى عملي مع الصبح وأخرج منها إذا رحت إلى بيتي مع الليل، ولست أخفي عليك أني أجد لذة قوية حين أدخل المدينة مع النهار هابطاً إليها من هذه الربوة كأني أغزوها وأسقط عليها سقوط النسر على فريسته، وأجد لذة أخرى ليست أقل من تلك اللذة قوة حين أمضي النهار كله في المدينة مضطرباً مع الناس فيما يضطربون فيه من عمل، خائضا مع الناس فيما يخوضون فيه من حديث، مشاركا للناس فيما يأتون من خير وشر، نافعاً ضاراً منتفعاً محتملاً للضرر، حتى إذا كان المساء ضقت بهم وضاقوا بي وأويت إلى جامعتكم هذه الجديدة أريح نفسي بما اسمع من كلام فيه الممتع وفيه السخيف، ولكنه على كل حال ليس بذي غناء، حتى إذا أخذت بحظي من هذه الراحة الأولى رحت إلى بيتي فلا تسل عن هذا الشعور العذب الذي ينبسط على قلبي شيئا فشيئا، كلما دنوت من هذا المكان أحس كأني أنسل من المدينة وأتخفف من أثقالها وألقي آثامها من ورائي وأطهر جسمي ونفسي من أوضارها وأدرانها حتى إذا رقيت هذه الربوة وبلغت قمتها هذه (وكنت قد أحسست الجهد من الصعيد في طريق عالية ملتوية) وقفت وقفة من كان في مكروه فخلص منه، وأرسلت زفرة يخيل ألي أنها تحمل بقية ما علق بنفسي من شر المدينة، ثم تنفست ملء رئتي مرة ومرة ثم أقبلت هادئا مطمئنا قصير الخطى إلى هذا الباب. وهنا وقف ودق الباب دقتين ففتح لنا ثم أغلق من دوننا.