ولم يرعنا مما ينغصنا إلا صوت طفل صغير من الليبيين يتكلم الإيطالية، لأنهم فرضوها على الصغار وأبعدوا ما بينهم وبين التمكن من العربية بمسافات وآفاق.
فعدنا إلى حياة اللغة العربية، وإلى مهمة أدباء العرب وصحافة العرب، ولا سيما الصحافة الأدبية.
ثم وصلنا إلى ما قبل حلفا وانتظرنا في الباخرة إنجاز مراسم الدخول والحيطة الصحية. فإني لأنظر من باب المقصورة إلى النيل إذ أقبل نفر من الفتيان الذين يلوح عليهم أنهم طلبة وموظفون. فسألوني: أأنت فلان؟ قلت: نعم. كيف عرفتم؟ فابتسموا وقالوا: لا تؤاخذنا إن قلنا من صور المجلات، ولا سيما الفكاهية!
قلت: يا أصحابي إن هذا لا يرضيني أو لا (يملقني) كما يقول الأوربيون. . . أو ترون الشبه قريباً بيني وبين تلك الصور إلى هذا الحد؟ قال قائل من الواقفين حولنا ليرضيني أو يملقني على حسب ذلك التعبير: بل هي مبالغة الرسامين في بعض معارف وجهك المميزة لك قد دلتهم عليك.
وما هو إلا أن فرغنا من شأن الباخرة وانتقلنا لقضاء الليل في مركبة القطار حتى كان أول حديث طرقه هؤلاء الفتيان ومن صحبهم بعد ذلك حديث الرسالة وآخر المساجلات الأدبية فيها. وبدأ لي في الخرطوم كذلك أن هذه المساجلات تعقد حولها حلقات مختلفات من المتشيعين لهذا الفريق أو لذاك، وبدا لي منذ أول الطريق أن أدباء ليبيا والأقطار العربية والسودان يأخذون علينا أنهم يعرفوننا ولا نعرفهم، ويتتبعون أخبارنا ولا نتتبع أخبارهم، وأن الأديب منهم يستطيع أن يحدثنا عن جميع كتابنا وشعرائنا ولا يستطيع أحد منا أن يحدثهم عن كتابهم وشعرائهم، وإن كانوا جدراء بالحديث.
وهذا كله صحيح ولكن السبب الذي يردونه إليه غير صحيح؛ فالمصريون لا يفوتهم ما يفوتهم من أدب ليبيا والأقطار العربية والسودان لأن اهتمامهم بالعرب أقل من اهتمام العرب بمصر، كلا وأقولها عن يقين، وإنما يفوتهم ما فاتهم لأن صحف مصر تصل إلى كل مكان في بلاد العربية، ولا يصل إلى مصر من صحف تلك البلاد إلا القليل.
ويخطر لي في هذا الصدد أن صديقنا الأستاذ الزيات قد فكر في تخصيص أعداد لكل أمة من أمم الضاد يحيط فيها بشئون تلك الأمة أدباً وثقافة ومرافق أخرى؛ فإذا مضى في تحقيق