للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مصر. ويستعمل المتسولون في هذا البلد نداءات دينية سأذكر أمثلة منها فيما بعد. ويشبه هذه النداءات صياح باعة الخضر وغيرها. وقد أدهشني هتاف حارس الليل في الحي الذي سكنته أثناء زيارتي الأولى: (سبحان الملك الحي الذي لا ينام ولا يموت)؛ ويصيح الحارس الحالي في الحي ذاته: (يا رب يا دائم). ويمكنني أن أضيف أمثلة كثيرة أخرى توضح تدين الشعب الذي أحاول وصفه، إلا أنه ينبغي أن أقرر هنا أن التدين ضعف كثيراً بين المسلمين، فإنك لا تنفك تسمع منهم أثناء الحديث معهم مثل قولهم: (إنها نهاية الدنيا! لقد تردى العالم في الكفر). ويعتقدون أن حالة المسلمين الآن تدل إلى قرب النهاية. ويبين ما ذكرت في بعض عقائد الوهابيين على أنها عقائد المسلمين الأولين إلى أي حد كبير حاد المسلمون عن تعاليم القرآن كما بلغت أولاً.

يظهر الرجال - تحت تأثير إيمانهم بالقضاء والقدر - في أوقات الابتلاء صبراً مثاليا، وبعد الحوادث المفجعة استسلاماً وتجلداً عجيبين يكادان يقربان من البلادة؛ ويعبرون عن أسفهم بقولهم متنهدين: (الله كريم). أما النساء، فهن على النقيض يبدين حزنهن بالإسراف في البكاء والصراخ. وبينما يلوم المسيحي نفسه بحق على كل حادث مكدر يظن أنه جلبه على نفسه أو كان يمكنه تجنبه، يتمتع المسلم عند تقلبات الزمان وصروف الدهر بهدوء بال عجيب، ولا ينفك مستسلماً عند دنو أجله فيصيح: (إنا لله وإنا إليه راجعون). ويجيب من يستفسر عن حاله: (الحمد لله. . . الله كريم). ولا يمنع الإيمان بالقضاء والقدر المسلم مع ذلك من السعي إلى تحقيق غايته؛ فإيمانه بالقدر ليس مطلقاً، ولا هو يجعله يهمل تجنب الخطر، إذ حرم القرآن ذلك بقوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). غير أنه في بعض الأحوال كانتشار الطاعون وغيره من الأوبئة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين ألا يدخلوا مدينة موبوءة وألا يخرجوا منها. ويختلف المسلمون في جواز الحجر الصحي، إلا أن عمومهم يرونه غير ملائم

ويجعل الإيمان بالقدر المسلم مجرداً من الادعاء بمعرفة أعماله المستقبلة أو أي حادثة آتية، فلا يتحدث أبداً عما ينوي عمله أو يتوقع حدوثه دون أن يقول: (إن شاء الله)؛ وكذلك عندما يروي واقعة سابقة غير محققة، يقدم كلامه أو يختمه بقول: (الله أعلم)

يتمتع المصريون بفضيلتي الجود والإحسان - اللتين يبثهما الدين في قلوبهم - إلى درجة

<<  <  ج:
ص:  >  >>