كأن على مصر ظلامين: أعكرٌ، ... وآخرُ من خافي المقادير مُرْبد
رُكودٌ، وَإبهْاَمٌ، وَصَمْتٌ، وَوَحْشَةٌ ... وَقَدْ ضَمَّهَا الْغَيْبُ الْمُحَجَّبُ في بُرْدَ
كأن سماء النيل لم تلقَ حادثا ... ولا قصفتْ فيها القواصفُ بالرعدَ
أحقا تولَّى ذلك الهولُ، وأمَّحتْ ... خواطرُ ذاك الويلِ والرعب والحقد
فيا لَلْقُلوُبِ الصابرات وقد غفتْ ... على نعمةِ الإيمانِ والشكرِ والحمدِّ
ويا للقلوب المؤمنات وأمنها ... وضجعتها في رحمة الصمد الفرد
أهذا الربيعُ الفخم والروضةُ التي ... تَزُفُّ إِلى المستاف رائحةَ الخلد
تصير إذا رانَ الظلامُ ولفها ... بجنحٍ من الأحلام والصمت ممتدِّ
مباءةَ خمار وحانوتَ بائع ... شقي الأماني يشتري الرزق بالسهد
وقد وقفَ المصباحُ وقفةَ حارسٍ ... رقيبٍ على الأسرار داعٍ إلى الجد
كأن تقيّاً غارقاً في عبادة ... يقوم الدجى أو يقطع الليل بالزهد
فيا عالَمِ الأسرار، في الحي نائم ... قضى يومَه في حومة البؤس يستجدي
وسادتُه الأحجارُ والمضجعُ الثرى ... ويفترشُ الإفريز في الحر والبرد
وسيارة تجري لأمر مغيَّب ... محجبةَ الأسرار خافَيةَ القصد
إلى الهدف المستور تنتهب الثرى ... وتلمعُ لمعَ البرق يومضُ عن بعُد
متى ينجلي هذا الدجى عن مسالك ... مرنَّقة بالجوع والصبر والكد
ينقِّبُ كلبٌ في الحطام، وربما ... رعى الليلِ هَرٌّ ساهر وغفا الْجُندي
أيا مصر ما فيك العشية سامرٌ ... ولا فيك من مُصْغٍ لشاعرك الفَرد
أهاجرتي طال النوى فارحمي الذي ... تركتِ بديدَ الشملِ منتثر العقدِ
فقدتُكِ فقدان الربيع وطيبه ... وعدتُ إلى الإعياء والسقم والسهد
وليس الذي ضَّيعتُ فيك بهيِّنٍ ... ولا أنتِ في الغُيَّابِ هينة الفقد
أتيتُك أستسقي فكيف تركتِني ... لهذي الفيافي الصُّمِّ والكثُب الْجُرد
أتيتك أستعدي فكيف تركتِني ... إلى هذه الدنيا وأحداثها اللدِّ
أتيتك أستهدي فكيف تركتِني ... لهذا الظلام المطبق الجَهم أستهدي
أتيتُكِ أستشفي فكيف تركتِني ... ولم يبق غير العظم والروح والجِلْد