للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومما روي عنه حديث سارية الذي أشرنا إليه. وقد لخصناه وقلنا بعد تلخيصه: (لا داعي للجزم بنفي هذه القصة استناداً إلى العقل والى العلم أو إلى التجربة الشائعة. فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها ونفي أمثالها)

ثم عقبنا على ذلك قائلين: (إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهوراً بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية أما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة وراقبوها)

فسواه صحت قصة سارية أو صح جزء منها أو لم يصح شئ منها على الإطلاق، فيكفي أن تروى عن عمر بين معاصريه، ليثبت لنا أمر محقق لا شك فيه، وهو أن (الحساسية الخاصة) كانت ملحوظة فيه حتى تنس إليه الناس ما نسبوا من رؤيته جيش سارية على البعد وندائه عليه. فهو قبل أن تقع هذه القصة كان من أصحاب (الحساسية الخاصة) التي يلحظها من حوله وينسبون إليها الحوادث التي تناسيها

وهذه وحدها علامة كافية من علامات العبقرية، ولا حاجة معها إلى تحقيق ندائه على سارية واستماع سارية له كما جاء في القصة المروية أو على نحو يقاربها

فهو في رأي من حوله رجل يحس الأشياء التي لا يحسونها، ويملك القوى النفسية التي لا يملكونها، وهذا كاف لا تصافه بعلامة بارزة من علامات العبقرية في رأي النفسانيين المحدثين

وهنا نحن على (بر الأمان) الذي لا مجازفة فيه، ولا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً في التعرض للتلباثي بالنفي والإثبات

ولكننا إذا تجاوزنا هذا وتعرضنا لتحقيق التلباثي للحكم بإمكانها أو استحالتها، ففي وسعنا أن ننتقل من بر أمان إلى بر أمان مثله لا مجازفة فيه، وهو مطالبة الذين يجزمون باستحالتها بالدليل على ما يقولون

لأن الجزم باستحالة شئ بغير دليل كالجزم بوقوعه عياناً بغير دليل، كلاهما خرافة لا يقبلها العقل، وإن جاء أحدهما من ناحية الإثبات

وإنما الموقف السليم بين الإنكار والقبول أنك تترك الباب مفتوحاً لمن يثبت وينفي على

<<  <  ج:
ص:  >  >>