وهي تصف ما تركه فرعون من آثار هذه الحضارة في مصر، حين غرق هو وجنوده في البحر، ففي هذا يقول الله تعالى في الآيات: ٢٤، ٢٥، ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩ - من سورة الدخان:(واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون، كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء وما كانوا منظرين)
ويقول أيضاً في الآيات - ٥٧، ٥٨، ٥٩، ٦٠ - من سورة الشعراء (فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين)
ولاشك أن القرآن بهذا المدح والإطراء لما كان في مصر على ذلك العهد، يتفق مع الغاية التي قلنا إن الإسلام جاء من أجلها، وينادي بأنه ليس ديناً يدعو إلى إقامة نساك وعباد في الأرض لا غير، ويزهد الناس في تعميرها بشق الأنهار، وإقامة الزروع والبساتين، وغير ذلك من معالم الحضارة، ووسائل السعادة في هذه الحياة، بل يدعو مع العبادة والنسك إلى ذلك كله، ويرى أنه لا تتم سعادة الآخرة، إلا بسعادة الدنيا
وقد ذكر المفسرون في تلك الجنات والعيون أن البساتين كانت ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية، وذكروا في ذلك المقام الكريم أنه أراد به مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم، وقيل إن فرعون كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلثماثة كرسي من ذهب، يجلس عليها الأمراء والأشراف من قومه، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى خطأ المفسرين فيما ذكر الله من إرث بني إسرائيل في تلك الآيات، فقد ذكروا أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. ولاشك أن من يدرس تاريخ بني إسرائيل من عهد موسى إلى ظهور الإسلام، وكذلك تاريخ مصر في ذلك العهد، لا يجد شيئاً فيهما يثبت أن بني إسرائيل قام لهم فيه ملك في مصر، أو أنهم ردوا إليها فأعطوا ما كان لفرعون وقومه من الأموال والأماكن الحسنة. والحق أن الله تعالى يشير بذلك إلى بساتين وعيون كانت لبني إسرائيل في فلسطين، وذلك بعد أن قامت لهم فيها تلك الدولة العظيمة، وبلغت أوج عظمتها في عهد داود وسليمان عليهما السلام. فالضمير في (أورثناها) يعود إلى مطلق الجنات والعيون وما ذكر معها، ولا يعود إلى خصوص ما كان