للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بغداد، واضطرب معه حبل الأمن في أرجائها؛ حتى لم يجد الخليفة بداً من أن ينهض بجنده المختار إلى عاصمته الجديدة سُر من رأى، ليحسم بذلك وجه النزاع ويهدِّئ من سورات النفوس. . . ففي مثل هذه الظروف لم يكن يتيسر للجاحظ أن يقدم رسالته في (مناقب الترك) وإن كان هذا لا ينفي احتمال وجود أسباب أخرى حالت دون تقديمها؛ مما قد يشير إليه قول الجاحظ في مفتتح رسالته: (هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله - رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه - فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للاخبار عنها. . .).

. . . أخيراً توفي المعتصم عام ٢٢٧هـ وتولى بعده ابنه أبو جعفر هرون الواثق بالله؛ وكانت النفوس وقتئذ ما تزال ثائرة، ومظاهر الأحوال لم تتغير إلى الحد الذي يبيح للجاحظ أن يقدم على ما كان عنه من قبل محجما.

وإذا افترضنا زوال الأسباب القديمة، فإن الفرصة لم تكن تعرض، والمناسبة التي يلائمها إظهار رسالة في مدح الترك وإبراز مفاخرهم لم تكن تعنّ؛ والجاحظ يعلم أن لكل مقام مقالاً، وأن الكلمة من شعر أو نثر تفقد أكثر قيمتها إذا هي برزت في غير موضعها أو ظهرت دون مناسبتها. وتلك حقيقة يتحراها أكثر الأدباء قديماً وحديثاً في عرض إنتاجهم؛ وإنها لأدل على صدق الأدب وصحة الاستلهام، وأدعى إلى قوة التأثر وبلاغة التأثير معاً. وما (أدب المناسبات) إلا صورة صادقة من الأدب الحي يعجز عنه جماعة المفْحَمين ممن لا تواتيهم قرائحهم في كل حين، فينبزون أصحابه بلقب النُّسَّاخ أو النظامين؛ وفرق ما بين الطائفتين تيقظ بديهة أو غفوتها، واستجابة خاطر أو استعصائه. . .

(للمقال بقية)

محمود عزت عرفة

<<  <  ج:
ص:  >  >>