للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مال الشيخ إلى مصر، فهوت إليه أفئدة من الناس وتحلق حوله طلاب المعرفة من كل صنف، ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول؛ فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه

وهنا اصطدم الحق بالباطل، فنفس عليه الشيوخ مكانته، وشغب عليه سفلة المتعلمين وهم شر من سفلة الجاهلين، ولكنه واصل وثبته الفكرية وأشعل النار في الهمم الخامدة، وظل دائباً عاملاً دعي من حيدر آباد إلى كلكته وألزمته حكومة الهند الإقامة فيها

ولما وضعت الحرب أوزارها، أصعد إلى مدينة لوندرة وأقام بها أياماً قلائل، ثم انتقل عنها إلى باريس وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنين وافاه في أثنائها الإمام محمد عبده.

هذا هو الرجل العجيب، أنشأه القدر إنشاء ليكون الشعلة المقدسة في الشرق، في زمان هبت فيه ريح الجهل تريد أن تطفئ نور الله.

ولقد أجمع على احترامه الغرب والشرق، وشهدت له الأستانة وباريس وبطرسبرج بالعبقرية والغيرة والحمية على الدين.

ونظرة واحدة إلى حياة الرجل، تدلنا على قوة شكيمته في الحق، وسلطته على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأن كل معنى قد خلق له، يشد هذا وذاك قلب سليم، وحلم عظيم، وقوة اعتماد على الله لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر. تتضافر هذه القوى الذهنية والقلبية والخلقية داخل بنيان الرجل، فتندفع متعطشة إلى النور والحرية، فيندفع البطل إلى طموحه كالأسد الوثاب، ويتخط العراقيل المكدسة في طريقه حتى ينال ما يبغي أو يرتقب بارقة تلوح.

لقد كان السيد جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل، فدخل الماسونية وتقدم فيها حتى صار من الرؤساء، ثم أنشأ محفلاً وطنياً تابعاً للشرق الفرنسوي، ودعا تبابعته من العلماء والوجهاء إليه، فصار أعضاؤه نحواً من ثلاثمائة. وعظم إقبال الناس عليه حتى أقلق من بيدهم الأمر وقتئذ.

أنظر إلى الرجل وهو يخاطب العوام ليستشيرهم، فيقول ما معناه: (. . لو كان في عروقكم دم قيه كريات حياة، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر، لما رضيتم بهذا الذل والمسكنة، ولما

<<  <  ج:
ص:  >  >>