أن الرسالة البرقية تصل قبل الكتاب فتنسخه. ثم أخذ طريقه إلى مكتب التلغراف وبدأ يكتب الرسالة، ولكنه ما بلغ الكلمة الرابعة حتى جمدت يده على الورقة! قال في نفسه: أن الرسالة البرقية كالكلمة الملفوظة إذا قيلت فلن تسترجع، وسأكون بها مقيدا مأخوذا، ألقى القلم وخرج من المكتب يتنسم الهواء، واخذ يمشي أمام الباب ذهابا وجيئة وهو يسائل نفسه: أيكتب أم لا يكتب؟
دقت الساعة دقتين فارتعد وقال: ما لي أتردد؟ يجب أن أقطع الرأي، فأن الوقت وأن طال لا يسع المطال، ثم فكر وقدر، فجاء برأي خليط مبهم لم يلبث أن نزل عنه، وظل واقفا يتصفح وجوه الآراء ليرى الرأي القاطع نصف ساعة كان فيها فريسة الهم والضجر!
إستقبح من نفسه هذا الضعف الشديد، فاقتحم المكتب، وأتم الرسالة ودفعها إلى العامل وهو يقول في نفسه: سأتبعها بأخرى إذا بدت لي في الأمر بداءة.
ثم انكفأ راجعا إلى بيته يستعد ويتأهب! واقسم أن منظر ذلك البيت الذي يريد أن يفارقه غدا سيحيي في مخيلته صورة رائعة الجمال شديدة السحر، وأن زوجه وكتبه وأزهاره وأشجاره ستملك عليه وجدانه. فلا يمنعه الخجل أن يصبح ناكثا ما أمرَّ وناقضا ما أبرم!
لعل في القراء من يحمل وصف هذا الرجل على المبالغة، ولكني أؤكد لهم أن مكانه من الصدق مكان صورته الشمسية.
أن التردد مرض من الأمراض لا يؤبه له لندرته. يصيب المرء في حياته العملية، فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه في صغار الأمور وكبارها، فيكون في انتقاء الثوب، واختيار الحالة، وفي الإقدام على الزيارة القصيرة، والرحلة الطويلة، ويدخل في لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل في أدباره وإقباله.
جرت بين هذا الصديق نفسه وبين زوجه هذه المحاورة منذ اسبوع، فأنا أنقلها إليك بنصها لتزداد به معرفة.