ولكن ضميره يتحرك فتخبره بالمضحية الحقيقية التي ملأت الحوض بالدموع، وإن هما إلا دمعتان منها لا سواهما. ولكنه هو (لأنه يحب) يرى الدمعتين الأخيرتين اللتين وصلتا إلى قلبه أغلى وأعظم من جميع دموع (بلقيس)!
وحين تعود الملكة ومعها سليمان تقع عيناها على المنظر الفظيع فتصدم صدمة عنيفة ويجلجل صوت سليمان ضاحكاً. ولكن الملكة تتهدم بين يديه وتنهار. وهنا يدرك عظم الكارثة وفظاعة الجريمة، فيأخذه الوجوم. . . إنه أفاق ولكن بعد فوات الأوان!
وهنا يستعرض الناقد من المنظر عدة لوحات
فلوحة يتجلى فيها الصراع بين الخير والشر في نفس الصياد وقد تغلب الخير في النهاية على نزغات الشيطان، لأنها نفس محدودة المطامع ضيقة الرغبات!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس شهباء وقد تغلب الحب المكتوم على همسات الضمير، لأنها امرأة تحب!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس سليمان وقد غلب الشر حين أججته الرغبة والمقدرة، ثم غلب الخير حين كشف الجرم وتبين العجز، لأنه نبي وإنسان!
وهناك لوحة منزوية يتراءى فيها جحود الحب الأعمى، بجانب نبله المقدس؛ فدمعتان اثنتان من عيني شهباء يقومهما المحب بالدموع الغزار والليالي الطوال فترجحان، وهما وحدهما اللتان تبلغان قلبه لأنهما ممن يحب!. وعظمة سليمان وملك سليمان ومحاولات سليمان كلها لا تحول قلباً يحب لأن هذا الحب فوق الملك والقوة والسلطان!. ونبوة سليمان وحكمة سليمان لا تعصمانه من الشر الذي اندفع إليه، ولا من نزغ الشيطان في قلبه؛ لأن الشيطان يستخدم الحب الذي يذهب بالعقل وبالحكمة جميعاً
هذا الجحود العجيب بجانب الوفاء العظيم، بجانب الاندفاع المريد: لوحة فاتنة لأنها صادقة
وإلى هنا كان يمكن أن تنتهي التمثيلية، فلا تفقد شيئاً كثيراً من وقعها النفسي ومن أهدافها الإنسانية. ولكن توفيق الحكيم يؤثر الحوار الفلسفي ويؤثر ألا يكتفي بالإشارة عن العبارة؛ فهو يسجل في فصلين تاليين تسجيلاً مفصلاً في حوار ذهني ما سجلته الحوادث حتى الآن في تصرف حيوي، وما يستشف من هذه الحوادث في بساطة وبغير انتباه
وموعدنا ببيان هذا العدد المقبل فقد بلغنا اليوم أقصى الفراغ