أعماقها. واكتناه أسرارها، واستخراج كنوزها، فلما نشأ الجيل الجديد وقد تعلم أول أمره في رياض الاطفال، واسلمته هذه إلى مدارس ابتدائية وثانوية يجتهد مدرسوها أن يعلموا على أحدث طرق البيداجوجيا، ويقرأ تلاميذها في كتب ألفت على غرار الكتب الأوربية في الشكل والموضوع، أصبح الخريجون لا يربطون جديدهم بقديم آبائهم، وصارت الكتب الأوربية أشهى إلى نفوسهم وأقرب إلى عقولهم من كتب الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكتب القانون الفرنسي أحب إليهم من كتب الفقه الإسلامي وهكذا. وهم إذا نظروا في هذه الكتب العربية هزئوا بها وضحكوا منها! فإذا وقع نظرهم في الفقه على تحديد ماء الطهارة بأنه عشر في عشر بذراع الكرباس، قالوا ما لنا ولذراع الكرباس؟ إنما نعرف الذراع البلدي والذراع المعماري، وإذا رأوا نظام أخذ العشر قالوا ماذا يقابل ذلك من نظام الضرائب والجمارك؟ وإذا نظر الأطباء في كتاب القانون لابن سينا وقفوا أمام أحاجي لا طاقة لهم بها، وإذا نظر الأدباء في الأغاني والعقد وأمثالهما رأوا شرا كثيرا وخيراً قليلا! وكان ما فهموا أندر مما لم يفهموا.
الحق أن هذه مشكلة كبيرة تحتاج في علاجها إلى مهرة الحكماء، وأن ما في كتب أسلافنا من ثروة يحتاج إلى عقول كبيرة تضع منهجا قويما للاستفادة منها.
ونحن بين اثنتين: إما أن تتخصص منا طائفة صالحة لترجمة ثروتنا القديمة إلى لغة العصر وروح العصر وأسلوب العصر، فيستطيع ناشئتنا أن يضعوا أيديهم على تراث آبائهم، وإما أن يتثقف أكبر عدد ممكن بنوع من الثقافة الشرقية القديمة، فضلا عما عندهم من الثقافة الحديثة، فيجمعوا إلى مواردهم الأجنبية الموارد العربية، ويخرج نتاجهم متشبعا بالروحين، مستمدا من الثقافتين.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك خشيت بعد قليل أن تصبح كتبنا القديمة غير صالحة الا للأرضة تعيث فيها، والعنكبوت ينسج عليها، ويكون شأننا معها كما قال ابو العلاء:
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة ... كما قال قوم ما جديس وما طسم