كل شئ يبعث في النفس الطمأنينة، ولكن لا. . . أنظر، فها هو ذا عجوز يدب في الحديقة، يتبعه جمهور من الناس يمشون بحزن ووجوم. إنهم يعلمون ما كان يجهله أولئك المطمئنون الهادئون.
أتدري ماذا وقع؟ لقد غرقت الأخت الثالثة في النهر. وهاهم أولاء يحملونها جثة هامدة. ليت شعري كيف يطلعون عليهم بهذا النبأ الفاجع وهم ينتظرون عودتها؟ ويمعن ماترلنك في تصوير أولئك الوادعين الذين كانوا يفعلون في هذه الليلة ما فعلوه ليلة أمس، ويظهر الفرق بين ما هم فيه، وما هم آتون عليه، بين الواقع الذي يجهلونه ولا يحسبون له الحساب، وبين ما هم مطمئنون إليه
ويتقدم الموكب، ويراه الجيران، وتثرثر جارتان:
- آوه. . يا لكثرتهم. . إنهم يسرعون
- سيأتون. . وأنا أراهم أيضاً، إنهم يقربون!
لقد كانت المصيبة تسعى. . . (فالقدر يمشي. . . لا يتعب ولا يمل. . .)
والحق أن هذا المنظر الفاجع ليبعث في الأنفس القلق. هذا مصيرنا نحن أيضاً. إننا نستسلم جميعاً للطمأنينة والراحة. وإننا لنفرح ونضحك. . . بل نعتقد أحياناً أننا سعداء، ولكن الموت والألم والمصائب، تسعى نحونا مسرعة لا يوقفها إنسان، ونحن غافلون مطمئنون
لقد كانت هذه الفكرة تهيمن على آثار ماترلنك حتى مطلع هذا القرن. . . ولقد حاول في روايته (أجلافين وسيليزيت أن يجعل الألم والموت يتراجعان أمام الحياة والفرح. ولكنه لم يدرك ما ابتغاه، ووجد نفسه مجبراً على أن يصور هذه المصائب التي تنغص عيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا
هذه أشهر آثار ماترلنك في الحقبة الأولى من تفكيره الفلسفي. فلما طلع هذا القرن، كان لماترلنك وجهة أخرى سنعود إلى التكلم عليها بعد حين