للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد أطلت التفكير في مصدر هذه الطاقة الموسيقية فلم أجده إلا في طبيعة البلاد السورية، فإنها هي المصدر الذي صدرت عنه هذه الظاهرة وانسجمت علي كافة طرق التعبير. لقد فعلت طبيعة البلاد فعلها الخاص في أعصاب هؤلاء الشعراء وتسربت منها إلى فنون القول موزوناً وغير موزون

يقابل ذلك ما ينتج من العراق من شعر ونثرن وما يألف من ضروب الغناء؛ فإنه يقف في الطرف الثاني من المحور، حيث يقف على طرفه الآخر أدب المهجر. إن الأدب في العراق كالغناء فيه يعتمد في إيصال الشعور على قوة اللهجة؛ فإذا كان أدب المهجر يمس شعور القارئ أو السامع برفق ولين، فإن أدب العراق لا يمسه إلا بشدة. ويقف بين هذين أدب مصر، فلا هو بالضعيف ولا بالعنيف

ولا محل للقول بتخلف الشعر في مصر لأن رنة الإيقاع فيه غير هادئة؛ فالشعر لا يقاس بهذا المعيار، وإنما ينظر في مدى ارتقائه على أنه أسلوب بيان ومجموعة خواطر. أما قوة اللهجة فيه فإنها مظهر الحالة العصبية التي كان عليها الشاعر عند بنائه بيوت الشعر. وليست هذه الحالة بجزء من الشعر لتكون جزءاً مما يقاس به مدى ارتقائه وطول بقائه، ويحكم له أو عليه

وقد نرى الهمس والجرس في بعض قصائد الشاعر فلا يصطبغ شعره بهذا اللون، لأنه وليد حالة روحية خاصة تأتلف الموضوع المقول فيه. ومركز الثقل فيما دار ويدور عليه الحديث على لسان الرسالة وزميلها الثقافة، هو ندرة ما في مصر من هذا الشعر وكثرة ما في أدب المهجر منه. تلك الظاهرة التي أرجعناها إلى طبيعة البلاد. فشاعر المهجر عاش في وسط لا ترهق فيه الأعصاب، ومن ثم كان تصويره وتعبيره غير مرهق الأعصاب غيره. أما الشاعر في مصر أو في العراق فإنه محاط من حمارة الصيف بما يتعب الأعصاب ويبعد بها عن أن تنفعل إلا بأبلغ المؤثرات. وهو بمدى تأثر هذه مسوق إلى التهويل عند محاولة التأثير فيمن سواه. فكان كل من أدبه وغناه يعتمد في التأثير على ارتفاع الصوت فيه وإن صم الآذان

وأعتقد أن حالة الأعصاب هذه كانت وما تزال حائلاً دون انتشار القصة والرواية في أدب العرب، وباعثاً إلى وضع تلك القواعد الأدبية التي تقول باختيار ما قل ودل، وأن الإعجاز

<<  <  ج:
ص:  >  >>