للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يحول بينهم وبين هذه الفنون. وتشددت اليهودية في هذه الحيلولة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً فحرمتها تحريماً صريحاً إذ جاء في التوراة في الأصحاح العشرين من سفر الخروج: (لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تبعدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور) وقد قضى هذا النص على الفنون الجميلة عند اليهود قضاء مبرماً فلم تستخدمها كغيرها من الأديان التي سبقتها ولم تحاول أن تجندها لخدمتها. وإذا كانت الحضارة اليهودية قد بلغت أوجها في عهد داود وسليمان فتقدمت الصناعة ونهضت التجارة وازدانت فلسطين بما شيد في ذلك العهد من قصور ومعابد (ومحاريب وتماثيل وجفان كالجواب) أشار إليها القرآن الكريم في سورتي النمل وسبأ، كما أشارت إليها أيضاً كتب التاريخ، فقد استعان اليهود في ذلك بالأجانب من مصريين وفينقيين وآشوريين

على أن اليهود لم تنتشر، وبقيت الوثنية دين الكثرة من سكان العالم، وتأثر الرومان في ديانتهم الوثنية باليونان، وكما خدمت الفنون الجميلة الدين اليوناني القديم، كذلك خدمت الدين الروماني

وظهر الدين المسيحي، واعتنق المسيحية كثير من بني إسرائيل ثم انتشرت في الإمبراطورية الرومانية بسرعة عظيمة بسبب نضوج الفكر الإنساني، وعدم ارتياحه إلى طقوس العبادة الوثنية. وقد قامت المسيحية تدعو إلى ترك الدنيا والتجرد منها والانقطاع إلى الآخرة والإقبال عليها. ولعل خير ما يترجم عن دعوتها هذه قول السيد المسيح في الإصحاح السادس من إنجيل متي (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.) ومثل هذه المبادئ ليس فيها ما يشجع على ازدهار الفنون الجميلة لأنها تنكر جمال هذه الدنيا وتطالب بكبت ما في الإنسان من ميول وغرائز، ولذلك لم تبتدع المسيحية فن جميلاً بل انتفعت بالفن القائم بين يديها، وما الفن المسيحي المعروف إلا فن وثني لبس رداء المسيحية، فهو فن مسيحي فقط باعتبار ما يؤديه من خدمات للدين المسيحي أو للمسيحيين لا باعتبار أنه يعبر عن فلسفة هذا الدين لأن فلسفة هذا الدين - كما رأينا - قوامها الزهد والتقشف

<<  <  ج:
ص:  >  >>