ذلك إلى أن القائمين على ثقافة هذا البلد قد اتسموا بميسم السياسة العامة، فحصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، ولم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له ليضعوا سياستهم على مقتضيات حاله، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته
نعم، لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يتولاها وزير يريد أن يعمل ويدري كيف يعمل. وهذا التقرير الذي نشره نجيب الهلالي باشا هو المقدمة الممهدة للتاريخ الذي سيكتب بعد الحرب لمصر العالمة العاملة. وليست قيمة هذا التقرير الخطير فيما اشتمل عليه من خلاصة الآراء الفنية لأساطين التربية في إنجلترا وأمريكا؛ إنما قيمته العظمى في الروح الذي أوحاه، والغرض الذي توخاه، والعزم الذي انطوى عليه: وهل كانت تقارير الفنيين أمثال (مان) و (كلاباريد) تعوزنا حين كنا ندور على أنفسنا دوران أبي رياح لا نتجه ولا نسير، ولا نعرف قبيلاً من دبير؟
نهج معالي الوزير في تقريره الخطة المثلى لإصلاح التعليم وتجديده، ولم يعتمد في نهجه كما قال (على الخيال والأماني، وإنما اعتمد فيه على تجارب مصر في نهضتها الحديثة، وتجارب الأمم الراقية التي سبقتها إلى النهوض في أوربا وأمريكا)
وهذه الخطة تعتمد (على أسس بلغت من الوضوح حد البداهة، لا في مصر وحدها، بل في العالم المتحضر كله، وهي أن التعليم حق للناس جميعاً. . . وأن المساواة ما دامت أساس الحياة الديمقراطية يجب أن تشمل حقوق الناس وواجباتهم كلها، والتعليم من أول هذه الحقوق لأبناء الشعب، ومن أول هذه الواجبات على الدولة. . . و (أن هذه المساواة تستلزم إزالة الفروق بين القادر والعاجز؛ وسبيل ذلك تيسر التعليم للناس جميعاً بإلغاء مصروفاته شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الإلغاء عاماً. وتستلزم هذه المساواة كذلك أن يلاحظ المشرفون على التعليم مواهب المتعلمين وكفاياتهم، وأن يوجهوا كلاً منهم إلى أن ينفع وينتفع ويكون مواطناً عاملاً كريماً في وطن راق كريم)
وعلى هذه الأسس الثابتة أقام الهلالي باشا دستور التعليم المقترح. وأقوى مبادئ هذا