للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يعشقه عشقا ويهيم به هياما، وهي مواهب من تهيئهم الأقدار للنبوغ حتى أنني لما أرسلت بنسخة من تلك الصورة إلى الميسو لابلاني ناظره وأستاذه، وكان وقتئذ بفرنسا بسبب العطلة المدرسية - أرسل يطلب إلي أن افتح عيني مختار إلى الشهرة التي تنتظره وأنه سيكون في يوم قريب فخر مصر، بل فخر العالم كله (هكذا). وعند ذلك أقبلت عليه أزف إليه هذه البشرى، وسلمته ذلك الخطاب الذي يعد أول وثيقة تنبأ فيها أستاذه النافذ البصيرة بما سيكون له من الشأن.

وهكذا اصبح مختار حديث المجالس الفنية في فرنسا حتى اختارته (وهو مصري) مديراً لمتحف جريفين الشهير، وحتى ابتاعت بعض آثاره تزين به متاحفها، وحتى صور لنا آلام مصر وآمالها ونهضتها في تمثاله الخالد.

لم يكن مختار من أولئك القاعدين المقلدين فيسير على أسلوب فالكونيه وكافوفا وكلوريون، أو جيروم وكاريو وبارتولوميه ورودين، فتخرج آثاره موسومة بطوابعهم وتفني روحه الفنية في أرواحهم، وإنما كان نفسا يعز عليها ألا يكون لها شخصية مستقلة متقدة بالأمل، ظمأى إلى النهوض، وثابة إلى أبعد مراتب المجد حتى انه قبل قيامه إلى فرنسا لاستكمال علمه أشار إلى ذلك في شعر قاله ثم بعث به إلى، اثبت منه هذه الأبيات لأن أكثره غير موزون ولا مصقول وان دل على سمو هذه الروح.

وقائله ما بال شعرك مسدلا ... فقلت لها إن الفنون جنون

اعلل نفسي بالمعالي تخيلا ... فياليت آمال الخيال تكون

سأرفع يوما للفنون لواءها ... ويبقى لذكرها بمصر رنين

من ذا الذي يصهر نفسه مثل هذا الهيام الفني ويغمرها مثل هذا الأمل الحبيس في خدر الطفولة والاغتراف من العلم ولا يكون له من هالات الظفر والمجد والشخصية نصيب؟

وإذا كان وهو لا يزال بمصر طالبا لم يرض لتمثاله (الحب) إلا أن يطبعه بصورة خاصة من وحي نفسه وعصاره خياله الذي كان وليد سهره تلك الليلة الطويلة التي مر بنا ذكرها، فكيف لا نلمس هذه الشخصية الناضجة في تمثاله الذي رمز به للنهضة.

ولقد تعاقبت القرون وأبو الهول (ذلك التمثال الصخري القديم) غائر في رمال الصحراء، محدق بنظره في الفضاء، صامت صمت الحجر الصلد الذي نحت منه، حتى هيأت الأقدار

<<  <  ج:
ص:  >  >>