لقد ظلت هذه المنى دعوة الدين ورسالة الحكمة منذ هبط هذه الأرض آدم؛ فكانت تقص كالأحلام، وتسمع كالأنغام، فتهدهد الغرائز العارمة ساعة الشبع والغفوة، فإذا انتبه الإنسان على وخز الحاجة كثر عن الناب وشمر عن المخلب، ثم يفعل ما يفعل كل حيوان من كل جنس. فلما جاءت المدنية لم تزد على أن جعلت للناب غطاء من الذهب الوهاج، وللظفر غشاء من الصبغ القاني! فهل آن لعقول الناس أن تفهم عن وحي الله؛ وللخلائق المكسوبة بالتهذيب أن تتغلب على الغرائز الموروثة بالفطرة؟ لا نظن ذلك. إنما هي القوة التي تحولت بتأثير الكثرة والثروة إلى تهديد مستمر: وهي الحرب التي تطورت بتسخير العلم والفن إلى فناء عام! فإذا فكر قادة الإنسانية اليوم أن يحسموا أسباب الحرب فيما بقى من عمر الدنيا، فذلك لأن الحرب المقبلة معناها انفطار السماء وانفجار الأرض وقيام الساعة. والنزاع الدولي مهما اختلفت دواعيه نزاع على مادة الحياة. فإذا كان يؤدي إلى الفناء المطلق، وجد في أصل الفطرة الإنسانية ما يمنعه. والأصل في طبيعة الحرب أن تنتج النصر من قوة وضعف. فإذا تكافأت القوى بطل عملها أو تفانت. وكل دولة من الدول التي تمتاز اليوم بكثرة الأرقام في عدد الأنفس والأموال ومعاهد العلم ودور الصناعة، تستطيع أن تعبئ الجيوش وتهيئ الأسلحة، ولكنها لا تستطيع أن تضمن الغلب؛ فلا مناص إذن من تحالف دولتين أو ثلاث منها لتبطل التكافؤ وتثقل الكفة. ولا يدوم هذا التحالف الحتمي بين الدول المختارة لحفظ السلم إلا إذا انقدعت نفوسها عن الطمع والأثرة. لذلك كنا متفائلين بنتائج هذه الحرب إذا دارت دوائرها على المحور؛ فإن جنوح الأحلاف إلى تحكيم العقل المسلح في النزاع، وتوخي العدل الممكن في القسمة، وإيثار التبادل الحر في المعاملة، هو حلم الأمم الضعيفة بطبعها في العدد والعدة.
على إن سلطان العقل والعدل وإن قوى أثره في نظام العالم المرجو لا يضمن وحده سلامة شعب اجتمعت على أهله القلة والذلة والفرقة والجهالة؛ فإن لهذه الصفات الخسيسة أثرها قي تخفيف الموازين وتخفيض القيم. ولن تستطيع ولو حرصت أن تعدل بين متفاوتين في العقلية والحرية المدنية والقوة. ولا يستوي في طلب الحق أو الدفاع عنه واحد وجماعة. والدول الصغيرة كالآحاد قوتها في أن تجمع. ودول البلطيق والبلقان والشرق الأدنى قوى متفرقة؛ فلو تجمعت المتجاورات منها لكان لها في الحرب والسلم شأن غير هذا الشأن. وإن