فالفردية الشعرية، والخنزيرية الشعرية، متحققتان في كثير من الشعر الذي ينشر بيننا، ولكن أصحاب هذا الشعر لا يرونهما إلا كمالا في تطور الفن والعلم والفلسفة. وأنت متى ذهبت تحتج؟؟؟ الشعر من قبل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل ليصحح فساده بالفن - فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر فردي خنزيري، لم يستو في تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأى ناظمه وافتنانه به ودفاعه عنه، ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.
والشاعر أبو الوفا جيد الطريقة، حسن السبك، يقول على فكر وقريحة، ويرجع إلى طبع وسليقة، ولكن نفسه قلقة في موضعه الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه. والكلام يطول في صفة هذا الموضع، ولكنه في الجملة كمنبت الزهرة لا تزكو زكاءها، ولا تبلغ مبلغها إلا في المكان الذي يصل عناصرها بعناصر الحياة وافية تامة، فلا يقطعها عن شيء ولا يرد شيئاً عنها؛ إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذا لتهيئته وتركيبه. فان كانت الزهرة على ما وصفنا، وإلا فما بد من مرض اللون، وهرم العر، وهزال النضرة، وسقم الجمال.
ولولا أن الحكمة وفت الأستاذ أبا الوفا قسطه من الألم، ووهبته نفساً متألمة حصرتها في أسباب ألمها حصراً لا مفر منه - لفقدت زهرته عنصر تلوينها، ولخرج شعره نظماً حائلاً مضطرباً منقطع الأسباب من الوحي؛ غير أن جهة الألم فيه هي جهة السماء اليه؛ ولو هو تكافأت جهاته المعنوية الأخرى، وأعطيت كل جهة حقها، وتخلصت مما يلابسها - لارتفع من مرتبة الألم إلى مرتبة الشعور بالغامض والمبهم، ولكان عقلا من العقول الكبيرة المولدة التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس.
ولكن مادامت الحياة قد وزنت له بمقدار، وطففت مع ذلك وبخست، فقد كان يحسن به أن يقصر شعره على أبواب الزفرة والدمعة واللهفة، لا يعدوها، ولا يزاول من المعاني الأخرى ما ضعفت أداته معه أن تتصرف، أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ. ويظهر لي أن أبا الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري، وهو شبيه به في أنه لم تفتح له على الكون إلا نافذة واحدة؛ غير أن صبري أقبل على نافذته ونظر ما وسعه النظر، أما أبو الوفا