للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وشوقي!

زارني ذات يوم شاعر من شعراء الشباب، وفي يده قصيدة يريد نشرها بالرسالة، وكان موضوع القصيدة كما يقول: تصوير منظر قروي في ريف مصر: مشرق الشمس في القرية أو مغربها لا أذكر. فلما نظرت إلى الصورة - وأنا قروي - أنكرت ما رَسم فيها من الخطوط، ووضع بها من الألوان، وحشد إليها من الطبيعة. فقلت له: يغلب على شعوري أنك ترجمت. فقال وهو يعقد من التيه عنقه: ثق أنها من وحي خاطري وفيض لساني. فقلت له: إذن ما هذه النواقيس التي ترن في الأبراج؟ أفي قريتكم كنيسة؟ فقال كلا، وإنما آثرت رنين الناقوس على أذان المؤذن، لأني أجد للأجراس والأبراج من الروعة والشاعرية ما لا أجده للمئذنة والمسجد. فألطفت للفتى في الاعتراض والاعتذار مخافة أن يرميني في سره بالجمود والتأخر!

كذلك قدم إِليّ كاتب من ناشئة الكتاب قصة مصرية، سمى أشخاصها: جان، وألبير، ولورا، وهيلين. لأنه يجد هذه الأسماء في الحوار والحديث أرق وأعذب من علي، وإسماعيل، وسعاد، وفاطمة!

فالأدب المصري الحديث، كالمجتمع المصري الحديث، يقوم على موت الشخصية، وفناء الذات، ونسيان التاريخ، ونكران الأصل، فهو يستلهم المطابع الأوربية، ويخضع قريحته للقرائح الأوربية، ويعقد لسانه بالألسن الموهوبة منها، فيحكى ما تقول في لعثمة نكراء من أثر العقدة، وهو لو وضع عن كاهله نير الامتياز، وفهم هذه الكلمة المخزية على المجاز، فأخذ عن طبعه، وترجم عن طبيعته، لفجأ الغرب بأدب قدسي الإلهام، سحري الأنغام، شرقي الروح، مصري الطابع، يحل أهله من أدب العالم ما أحل أدبُ الهند إقبالا وطاغور!

إن الطبيعة المصرية أولى أن تلهم الشاعر تأمل الصحراء، وأحلام النخيل، وابتسام الصحو، لا أن تلهمه ما تلهم الطبيعة الإنجليزية من أمثال (الملاح التائه)، و (الزورق الحالم)، و (وراء الغمام)! فان الفن لا يخضع خضوع العلم للعقل المشترك والوطن العام، وإنما يخضع قبل كل شيء لطبائع الاقليم، وخصائص البيئة، ومنازع الشخص، فإذا استنزل شعراؤنا الشبابُ على خواطرهم هذا الوحي الغريب، فذلك أثر ما نشكوه من هذه العبودية العقلية التي ضربت على الآذان، وغلبت على الأذهان، وجعلتنا للأجانب في كل

<<  <  ج:
ص:  >  >>