ولعل أكبر صلة تربط امرئ القيس بالإفرنج وتميزه على شعراء العرب كافة هي إحساسه العميق بالطبيعة، وإني وإن كنت قد بينت الصلات الأخرى نصاً وتصريحاً، فإني تركت هذه الصلة (صلة الطبيعة) تبدو (من تلقاء نفسها) شرحاً وتحليلاً، والواقع أن امرئ القيس موهبة من مواهب الطبيعة، يجب أن ندرسها ونتعلق بها تعلق الإنجليز بشكسبير وتراثه الخالد
وقد حصرنا إلى اليوم همنا في تنفير الناس من امرئ القيس، وحصر عبقريته في الاستعارات بين (بيضة الخدر) و (قيد الأوابد) و (السجنجل) و (العقنقل)، وتركنا جوهر الشعر اللامع الوضاء دفيناً تحت الرماد
وقد أبدع العقاد في تحليل شعر ابن الرومي، وكتب صفحات رائعات، وقد يكون لغيره في النقد والتحليل نفثات، وكل ما نرجوه أن نعمل جميعاً على إظهار مكنونات وكنوز الشعر العربي. وأحب هنا أن أذكر أن (كتابة) النقد والتحليل قد ترتفع إلى أعلى مراتب الكتابة والبيان، لأن شخصية الكاتب تتجلى فيها، وهذه الشخصية تبدو في غضون الكتاب لا في العنوان. والشخصية تشمل المزاج وقوة التصوير والقدرة البيانية وتجارب الحياة، وهي كلها ذات أوشاج وصلات مع شعر الشاعر وحياته
وهذا (سانت بيف) أكبر ناقد فرنسي بدأ حياته بالشعر ثم أرصدها للنقد، فساعده خياله وأدبه وسعة اطلاعه على فهم الشعر والمجتمع، وصار الناقد في عبقريته لا يقل عن أكبر شاعر، كما أن (بول بورجيه)، وهو من خيرة الروائيين الذين حللوا الحب والحياة، ساعدته قوة تحليله وفلسفته على كتابة صفحات في نقد الشعراء المعاصرين هي آية في الفلسفة التحليلية، واختراق الستار الذي يحجب الحياة والمجتمع في شعر الشاعر، وقد تمكن كل منهما من إظهار تلك الأشعة الدقيقة التي تحيط بجوهر الشعر والفكر والخيال