وبعد أن كانت ترى في فرنسا مهداً للإخاء والحرية والمساواة، أصبحت تجد فيها كابوساً ثقيلا ومجزرة يذبح فيها أبناؤها بتهمة حانق أو شكوى حاسد، ولم تسد شهوة الدم وجشع السفاكين ما كان قائماً ليل نهار من قتل النفوس بالمقصلة والرصاص والإغراق.
وقد ذكرت في آخر رسائلها أنها (تحب ضوء الشمس ودارها وزوجها وابنتها المحبوبة وخادمتها الوفية) وتركت لابنتها صحفاً جمة من رسائل الحنان الأموي ملأى بالنصائح الغالية والكتاب الآتي أحد هذه الرسائل التي كتبتها في سجنها إليها:
(لست أدري يا عزيزتي إن كان يسمح لي بمقابلتك أو الكتابة إليك مرة أخرى أو لا. تذكري أمك دائماً. وهذا أحسن ما يمكن أن أقوله لك. ولقد عهدتني سعيدة لشعوري بتأدية الواجبات الملقاة على عاتقي، ولاستطاعتي خدمة الذين يعانون آلام الحياة ومساعدتهم؛ وهل الحياة إلا هذا؟ لقد وجدتني أذعن للقدر إذ يسوقني إلى الأسر، ولست مجرمة أستحق هذا، إلا أن الذكرى الطيبة والماضي الحسن والأعمال الجليلة هي كل عزائي، وبمثلها يستطيع المرء أن يحتمل مساوئ الحياة وتقلبات القدر. إن ما أتمناه هو ألا يقدر لك مثل ما قدر لي من المشاق والمتاعب وهناك ما لو استطعت اتباعه تفاديت به قسوة الحياة وحميت نفسك من مساوئها، ألا وهو العيش المنتظم الذي لا فراغ فيه؛ فهو حارس من كل خطر؛ وهو حاجة تبحث عنها النفس وحكمة يسعى إليها العقل، ليكون صاحبهما جاداً محترماً في حياته. فكوني عند حسن ظن أبويك بك، فقد تركاك مثلا جميلا، ولو استطعت أن تستغلي هذا المثل للوصول إلى ناحية الكمال أمكنك أن تحيي حياة نافعة).
زارتها في سجنها يوماً هنريت كانيت، وطلبت إليها أن تبدل لباسها وتسرع إلى الهرب، وتبقى هي في مكانها، إلا أن مانون رفضت طلب صديقتها في إباء وشمم، قائلة لها (ولكنهم يقتلونك إن فعلت ذلك) وبعد خمسة أشهر من سجنها استدعيت للمحاكمة، وكيلت لها التهم الشنعاء، فوقفت تدفعها عن نفسها باكية ساخطة. وفي اليوم التالي في ٨ نوفمبر سنة ١٧٩٣ سيقت إلى المقصلة، ولما رأت الشجاعة تخون جلادها حثته على أن يؤدي واجبه، وقد ظهرت وهي على شفا حفرة الموت نبيلةً في لباس أبيض ناصع يدل على طهرها. وشعرها الأسود الفاحم مرسل حتى وسطها، ينبعث من عينيها البراقتين شعاع الشجاعة والنبل.