والخوف والحزن. وجعلت أتساءل (إلى أين تمضي بي يا قلبي؟) نعم إلى أين؟. . . فهذا طريق غير مأمون العثار، فأين مني خطى الشباب وقلوب الفتيان؟. . . وهل أنا إلا (عم حسن) فماذا يقول والداها العزيزان لو علما بما جد في قلبي؟. . . كيف يريان جارهما الرزين الوقور وقد انقلب عاشقاً ولهان؟. . . بل مالي أثقل على قلبي بالتردد والمخاوف، فلأقل مع قلبي إن هذا الحب شئ طبيعي لا غرابة فيه، وإنه لن يكون الأول أو الأخير من نوعه؛ بل سأفرض أن جاري العزيز بارك بعطفه ما يختلج في صدري، فكيف لي بعد ذلك أن أحولها من ابنة إلى زوجة! وكيف أجعلها تنظر إلى عمها حسن فترى فيه حبيبها حسن؟ وضاق صدري والتهب جبيني وذكرت الصلعة اللامعة التي أتوج بها هامتي، والشيب الذي يحرق فؤادي، وثلاث أسنان قد قلعت، وسنة جديدة قد نغضت، فأكملت مسيري ممتلئاً شجناً وكآبه.
ولكن هل ارعويت؟. . . كلا. . . ففي اليوم الثاني جاءتنا إلى البيت خفيفة نشيطة كعادتها - وكانت أختي تصلي العصر - فأقبلت نحوي وجلست إلى جانبي يتألق ثغرها بالابتسام، فأحدث مجيئها شفاء لما كنت أكابد من أوجاع الانتظار، وهيج أسقاماً أنكي من هاتيك الأوجاع وأمر. وجدتنا منفردين فخلت أني أنفرد بها لأول مرة، وداخلني اضطراب وقلق وهيام. ولم تكن أول مرة تخلو إلي وأخلو بها، ولكن أجدت لي الخلوة هذه المرة شعوراً لا عهد لي به، ووجدت في أعماق نفسي حسيس أمنية يهمس لي لو تخلو لنا الدنيا كما تخلو هذه الحجرة!. . . لو تخلو فلا أخت ولا أب ولا أم ولا مخلوق سواها وسواي. هنالك تؤاتيني شجاعتي وتنجاب عني الوساوس وتنحسر عن ناظري غشاوة القنوط. . . فمن لي بأن أطير بها إلى تلك الدنيا المقفرة؟. . . وحولت إليها عيني فرأيت المرح والبراءة، فثبتهما على وجهها المحبوب. وما كان أسعدني رجلاً في تلك اللحظة لو جثوت - أنا والأعوام التي أحملها على عاتقي - عند قدميها الصغيرتين مادا راحة راغب ضارع. . . وشعرت بتحديق عيني فرشقتهما بنظرة صافية حتى أحسست الأرض تميد بي، وتعمدت ما وسعتني الحيلة أن أجعل لنظرتي معنى جديداً غير ما عهدت، وأن أحمل عيني رسالة من أعماق الفؤاد لأجذبها من عالمها البريء إلى دنيا آمالي وأحلامي. ولكن هل أدركت شيئاً؟. . . هل بلغت الرسالة؟. . . أما لو كان ذلك كذلك لتولاها الارتباك وخضبها الخجل. . .