ولست وحدي أعلم ذلك بل يعلمه مثلي كل من حرره الموت من قيود دنياكم وأصبح متحداً بالحياة الكلية التي تسبغ عليه نعمة المعرفة الكاملة
فالأموات يرونكم دائماً وأنتم لا تشعرون برؤيتهم إياكم، ويتفقدونكم دائماً وأنتم لا تعلمون بتفقدهم لكم، لأنهم اصبحوا أرقى منكم معرفة وأسمى روحاً وأنفذ بصيرة
فكم من رجال حولي يتطلعون إلى دنياكم ويرقبون فيها أبناءهم وأحفادهم ويرون ما آلوا إليه من الضنك والفقر على الرغم من كثرة ما أورثوهم من مال وعقار. فهم يشاهدون أموالهم التي اكتسبوها بعرق الجبين وادخروها لأبنائهم كيف تتبدد في الحانات والمواخير وأندية الميسر والخلاعة، ويأسفون لضياعها في بؤرة الفساد ويتألمون لأنهم لم يعملوا بها عملاً مفيداً للجنس البشري بدلاً من توريثها لمن لا يستحقها
أما دنياكم هي دنيا الحروب والمطامع - دنيا الرياء والأباطيل - دنيا الأخطاء والفواحش - دنيا الخوف والجهل والضعف. ولهذا نحن نشفق عليكم بالرغم من كثرة شذوذكم وتهربكم على الأخص من معرفة الحقيقة - حقيقة نفوسكم وحقيقة غرائزكم. كأن الحقيقة هي غول دنياكم تخشونها كما تخشون الموت، والحقيقة وحدها هي رجاؤكم العتيد. فخير لكم أن تظهروا على علاتكم بدلاً من أن تتقنعوا بأقنعة الغش وتتستروا بها، فهي لا تستركم عن وجه الحق، فالأقنعة فانية والحقائق باقية.
انتهى الحلم فاستيقظت فور انتهائه وأنا أردد عبارته الأخيرة. فقلت في نفسي هل الأقنعة الفانية هي أجسامنا التي نتعارف بها في هذا الكون، والحقائق الباقية هي جوهر الحياة الذي لا يدركه الفناء. ثم عكفت على نفسي أسألها: كيف جاءني هذا الحلم؟ وهل يحلم المرء بما لا يدركه وما لا يقع تحت حواسه؟
ألا تبلغ المخيلة شأواً لا تبلغه الحواس ولا يصل إليه الإدراك؟ أليس للدين الذي يلقن الإيمان بالحياة الأخرى ضلع أيضاً في هذا الحلم المرتكز على الإقرار الصريح ببقاء الحياة بعد الموت؟
أليس لمعضلات الحياة الدنيا ومشاكلها أو بالأحرى، أليس لتعطشي لمعرفة أسرارها وحل رموزها وأحاجيها يد في إلهام هذا الحلم الذي يعللني بكمال المعرفة بعد الموت ويشبع رغباتي وتمنياتي ولو في العالم الآخر بالوصول إلى ذروة الإدراك: إدراك حقائق الحياة