للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رجف بها الزمان، وأقر لها الحدثان. وإن مكنت الأمم لأنفسها بالصناعات والعلوم والآداب فعند العرب ما يكفل لهم التمكن في الأرض والخلود في سجل التاريخ. وحسب المجادل أن يسير فكره بين هضب إيران وبحر الظلمات وجبال البرانس وغابات أفريقية، ويعبر التاريخ في هذه المواطن كلها أربعة عشر قرناً ليرى مجد العرب ويبصر حجة العرب

ولا نقول إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا، ولكنا نقول إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة. والأمم تدل على فضلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق. وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطى جماد، والنبات يأخذ قليلاً ويعطي قليلاً. وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم يصح الاعتبار ويطرد القياس

تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكيناً في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل وتخلى لها سبيلها في الحياة

وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعى بين الأمم مشكور، إلا من ضل به الهوى أو جار به الحسد. وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم. ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق. ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيراً للبشر وسلاماً للناس أجمعين

ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة والإحساس المرهف، والإدراك النافذ، لغة كاملة معجبة عجيبة تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس. تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظاً غير ما وضعته لشبيهه إدراكا للفرق الدقيق بينهما. فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلاً كلمة واحدة وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم. وإذا دلت اللغات على صفات

<<  <  ج:
ص:  >  >>