للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

صورتها الشعرية الرائعة التي تنساب سحرها في النفس خفياً لا تكاد تلحق به المعاني! وليس من شك في أن هذه الصورة الشعرية ذات الموسيقى العذبة، كان من شأنها أن تصرف النظر عن التأمل في المعنى الذي تخبئه الألفاظ، ومن هنا فإن أقوال زرادشت كثيراً ما تتخطى الأسماع إلى القلوب، فتعمل في النفس بما لا تعمله الأفكار والمعاني. وهل يمكن للفلسفة أن تؤثر في النفس كما يؤثر الشعر؟

وليس أسلوب نيتشه وحده هو المجازى الرمزي، بل إن فكره أيضاً رمزي كذلك. فلسنا نجد لدى زرادشت تحديدات دقيقة أو براهين ثابتة، بل نجد خليطاً من الآراء والأقوال، يمكن أن نجد فيها لكل شيء جواباً بالسلب وجواباً بالإيجاب، ويمكن أن نجد فيها أيضاً مجالاً للاختيار بين عشرة أو أكثر من التأويلات المختلفة. وهذا كله من شأنه أن يجعل المؤلف في منجى من الاعتراضات التي يمكن أن يوجهها إليه الناقدون، لأن الناقد لن يجد لديه شيئاً ثابتاً يمكن أن يأخذه عليه -. ومثل هذا الأسلوب في الكتابة، أليس هو قبيل التخلي عن الفلسفة الحقيقية، على حساب هوًى ميتافيزيقي خاص، أو نزعة توكيدية شخصية استحالت إلى إيمان ثابت أو عقيدة راسخة؟ إذن فما أصدق نيتشه نفسه إذ يقول على لسان نبيه زرادشت: (تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يُسألون حين يعملون لماذا؟). وهل كان نيتشه فيلسوفاً يأخذ بالعقل ويخضع للمنطق، حتى يقدّم حجة على ما يقول، أو برهاناً على ما يدعي؟. . . إن زرادشت نبي ملهم، فليس له إلا أن يملي على الناس أحكامه، وليس على هؤلاء الناس إلا أن يرهفوا له السمع!

أما الرسالة الجديدة التي جاء بها هذا النبي الملهم، فهي في جوهرها ردّ فعل عنيف ضدّ الأخلاق المسيحية المغالية، والمذاهب العاطفية المتطرّفة، مما نجده في العصر الحديث لدى أصحاب (ديانة الألم الإنساني) وقد استعان نيتشه في سبيل القضاء على هذه الأخلاق، بكثير من آثار ذلك النقد الألماني العنيف للديانات والفلسفات. ولكن هذا النقد قد اتخذ عنده صورة التجديفات العنيفة واللعنات المتواصلة، فجاءت حملته على الديانات ضرباً من الإنكار الهائج الذي تشيع فيه صورة الجنون. بيد أن هذا الإنكار تعقبه تأكيدات مفعمة بالحماسة والحمية، بقدر ما هي خالية من كل برهنة أو إثبات. وهذه التأكيدات نفسها قد لقيت نجاحاً كبيراً، لهذا السبب عينه وهو انعدام البراهين منها: فإن انعدام البرهنة كان من

<<  <  ج:
ص:  >  >>