وهنا يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه. قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، مع أنه المطلوب ممن أتى ذنباً لم يُطلع عليه
فقالت عائشة لأبويها: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه. فقالت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم إلا قول أبي يوسف عليهما السلام إذ يقول: فصبر جميل والله المستعان. ثم تحولت فاضطجعت على فراشها
ولا شك أن هذا الذي يذكرونه لا يتفق وما سبق من النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس فخطبهم، وذكر أنه لا يعلم على أهله إلا خيراً، وأن أهل الإفك ذكروا رجلاً لا يعلم عليه إلا خيراً، فكيف يعود بعد هذا إلى الشك في براءة أهله من ذلك الإفك، وقد استشار كبار أصحابه فبرأوا عائشة منه، وذكروا أنه إثم وبهتان عظيم
ولما بلغ الأمر أشده، ولم يعد من السهل أن تعود عائشة إلى بيتها على هذا الحال، نزل الوحي ببراءتها في الآيات الأولى من سورة النور، ونزل فيها حكم القذف:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك فإن الله غفور رحيم).
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم تلك الآيات، وأمر بجلد أصحاب الإفك، وقد اتفقوا على جلد ثلاثة منهم، وهو مسطح وحمنة بنت جحش وأخوها عبيد الله، واختلفوا في جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت، فقيل إن عبد الله جلد أيضاً، وقيل إنه لم يجلد، لأن الحد كفارة وليس من أهلها لنفاقه، أو لأنه لم تقم عليه البينة بذلك، أو لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده، بل على لسان غيره
وأما حسان فقيل إنه كان من أهل الإفك وإنه جلد فيه، وقيل إنه لم يكن منهم ولم يجلد مثلهم، ومما يدل على أنه لم يكن من أهل الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها