للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ورجال قد خلعوا العذار، وتركوا الوقار، ونصبوا الحلقات للأحاديث والأسمار، لا للعظة والاعتبار، كأنهم وحقك في قصور، لا في قبور!

وشبان مفتونين قد جاءوا إلى المقابر جماعات، يسعون وراء الغادات، الرائحات الغاديات، ويغمزون لهن بأطراف الأحداق، ويبثونهن لواعج الصبابة والأشواق، ويظهرون لهن العشق والهوى، والهيام والجوى، ونسوا ما حولهم من الرجام! التي توحي بالآيات العظام، وتنسي الحب والغرام!

فلما شاهدت هذه الأباطيل ضاقت نفسي، وهاج حسي، وعدت إلى داري وصرت حلسها إلى وقت الأصيل، فخرجت بلا صديق ولا دليل، أنعم النظر في مشاهد العيد وأطيل، فما كادت والله تقع عيني إلا على شر، ولا ترى غير هزل ونكر، ولا تكاد تسمع أذني إلا الفحش والهجر، أفواج من الآدميين سائرون كالبهم هنا وهناك بلا أغراض ولا أهداف، كأنهم قطيع من الخراف، يسيرون - وقاك الله - كما تشاء لهم أرجلهم عن اليمين أو عن اليسار أو في المنتصف مشية الفرح والزهو والسرور، استمتاعاً بما تبيحه لهم حرية السير والمرور!

وعربات تكدست بالأجسام التي تتغنى بأنكر الأصوات، وأقبح النغمات، كأنها خوار ثيران، أو نهيق قطعان، ومجالس ومجتمعات لا للصلاة ولا للدعاء ولا للسجود، ولكنها لابنة العنقود! وناهيك بما يدور فيها من حديث الإفك والبهتان، والغيبة في الأبرياء والعدوان، مما تحرمه الأديان، ويستنكره الديان، ولا يليق بطبيعة الإنسان!

وكم وراء الستار في ليالي العيد من أمور! وكم يخفي ظلام أمسياته من فجور! وكم تباح حرمات، وتنال شهوات، وتدرك غايات! كأن الناس ما كانوا منذ يوم لله صائمين، ولحدوده ملتزمين، أو كأنهم كانوا في صيامهم هازلين لا جادين:

قال أبو الحسن: فلما رأيت هذه الحال، وذلك المآل، فزعت إلى الله أقرأ في كتابه، وأقف خاشعاً عند بابه، وأستزيد من رحمته ومن ثوابه، واطلب للناس الهدى والرشاد، والصواب والسداد، ثم أنشدت:

ما صام من أمسك عن طعامه ... ولم يصم عن اقتراف إثمه

الصوم أن تمسك عن عدوان ... وعن أذى. . . في السر والإعلان

<<  <  ج:
ص:  >  >>