فسكنت طبيعة المعهد، وركدت ريح الفناء، وثقلت حرارة الجو، وأخذ الدارَ ما يأخذ الأرضَ قبيل هبوب العاصفة!
وهنالك اقتحم الدار ذلك الأفريقي الذي رأيناه بالأمس يقرع الباب الأحمر، والامتيازات تجأر بالشكوى على ظهره، ثم أثار من حلقه عاصفة هوجاء ترمي بالسباب والسفه، فلم تدع كرامة على منصة، ولا مهابة على مكتب، ولا جلالة في الإدارة، حتى تناولتها بالعيب والزراية
من الذي جرؤ على أن يطرد ابني يا. . . . . أين ذهبت أوامركم بالأمس؟ ما حال قوانينكم اليوم؟ كيف ترفعون رءوسكم غداً؟ ثم تربد وجه الرجل وتزبد فوه فأرسل على القوم من فحش البذاء ما نحمد الله على الجهل برسمه حتى نكتبه!
برح الخفاء واستعلن السر، فسكن القوم سكون الطير في ثورة الطبيعة! فلما هدأت زمجرة الأسود الممتاز، وانصرف عنهم انصراف الليل المرعد عن الصباح الوديع، أفاقت الطير من دوُار الزوبعة، وفزعت إلىالإدارة العليا تستصرخها للكرامة، وتستعديها على الرجل، وتسألها أن تعارض شكاية بشكاية، وتقول في حرارة الموتور ومرارة النادم: لقد قال الرجل فأسرف، وسكتنا فأسرفنا!
وتشاء المصادفات العجيبة أن يكون بين يدي الإدارة آنئذ دلَو من الماء النمير البارد فتلقيه على ثورة الغضاب فتقر! ثم قالت لهم بتلك اللهجة الحاسمة والإشارة الحازمة:
نعما فعلتم! الحلم سيد الأخلاق
كان رجال الدين في العهود العزيزة مفزع الفضيلة المروعة، وملجأ الفضل المضطهد. يبغي الحاكم، ويجحف السلطان، ويطغى المستبد، حتى إذابلغوهم شدوا الشكيمة، وردوا الجماح، واستقاموا على الطريقة. ثم كانوا في حضرتهم يستكينون لسلطان الدين، وسيطرة الضمير، وعزة القناعة، وصراحة الخلق، وشجاعة القلب، وإعلان الحق في وجه الباطل وإن ذهبت عليه الدنيا، وأريقت في سبيله النفس
وكان من ورع رجال الدين في الأزمان الصالحة سياج على حمى الشريعة، يرد عنها خبائث الطمع، ونقائص المادة، فلا تُسخر للظلم، ولا تُستخدم للحكم، ولا تُستغل للهوى، وكانت كلمة العالم هي كلمة الله، يقولها فتعنو لها الجباه، وتجمد لها الشفاه، ويستقيم بها