أشبه المآذن بالمصابيح: تهدي في ظلمات الضلال، وبحق سميت منارات.
وانظر هذا البرج البعيد على سفح الجبل في مكان من القلعة القديمة حيث قبرا الرجلين العظيمين عثمان وأورخان.
لست أرى جامع مراد الثاني وضريحه والقبور التي أطافت به وبينها قبر جم الأمير التعيس، ولا أبصر جامع مراد خداوند كار شهيد قوصوه، ولا قبر مشرفا على السهل منطوياً على سره وجلاله، ولا ينابيع المياه الحارة والباردة منبجسة بفنائه. وما أجمل ينابيع الماء في بروسة مساجدها وطرقها تلقى السائر حيثما توجه متدفقة بالحياة ليلا ونهارا.
وأين مسجد أورخان أقدم مساجد بروسة؟ غيبه عن عيني الجبل والشجر، ولكنه لم يغب عن القلب وجه المتواضع
وليت شعري ما خطب هذه المآذن الصغيرة، والقباب الخاملة المنثورة في المدينة؟ بناها قوم لم يبلغوا من حظ الدنيا ونباهة الذكر ما بلغ هؤلاء. ولعلهم كانوا أسعد حياة، وأعظم عند الله شأناً. وإن الجاه والمجد والسلطان وما يحيط بها من ضوضاء هذه الحياة لأسوأ ما يكافأ به الرجل الطيب ذو النفس الزكية في هذا العالم. فلا تأس على ما فات الصالحين من جلبة هذه السوق.
لا تقع عيني في مجلسي هذا إلا على أكداس من العبر، وأسطار من حظوظ البشر. وما أشقى هذه النفوس التي لا تقلب بصرها في هذا العالم إلا لتقرأ ما وراء صوره من عظات وآلام، يا لها ذكريات تجيش لها النفس، وينطلق بها الفكر في مسالك يعيا بها جهد المفكر.
لله بروسة الجميلة سهلها وجبلها، ودورها وشجرها، ولله فيها هذا التاريخ العظيم يملأ أرجاءها، ولله هذه النفس، كلما خلت وطلبت للفراغ مجلساً انهال عليها من العَبر والفكَر ما يكدّرها ويحزنها، وينفر بها عن الناس، ويسمو بها في معارج من الحقائق والخيال تلتبس فيها السعادة والشقاء.
أيها القلم حسبك، فما يتركني الناس أبلغ من خلوتي غايتها. فهاهم قد أقبلوا يتحدثون، وها هي أصوات النرد تُطير عنّي أسراب الأفكار. وقديماً قال أبو العلاء:
حوربتُ في كل مطلوب هممت به ... حتى زهدتُ فما خُلّيت والزهدا
إيه يا بروسة والدنيا غِيَر، والدهر قُلّب! ليت شعري، وأنا أحبك، وأود لو إنفسح الزمان