للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة، ففيه عنصر التموج والاستمرار. وليس بخاف أن الحياة كلها تموجات موقعة، فالصوت والضوء والموج والريح والشجر وأوراقه، كلها تموجات أو تهتز موقعة في موجات. والحركة دائرة مستمرة حتى في الجماد حيث ترقص الذرات الكهربائية. والراقص أو الراقصة في أوروبا لا يخترع حركات وإنما يكتشف حركات، يكتشف ما هو كامن في نظام الحياة والوجود، وإن كان لا يقف عند الإحساس إلى الدرس، ويروض نفسه على تشرب موسيقاها بالتدريب الطويل المتصل حتى يجيد فهمهما فتصبح الحركة تعبيراً عن معاني النفس.

لقد أخذنا نعني في الشرق بتثقيف العقول، ولست ادعي أننا قد نجحنا كل النجاح في هذا التثقيف ولكنني أحسبه شيئاً يذكر إذا قارناه في بتثقيف الإحساس. ولقد فطن الناس إلى أن الشيء الرائع في تربية الإغريق القدماء كان عنايتهم بتنمية حاسة الجمال في النفوس عن طريق رياضة الجسم ورياضة الروح، فأفلاطون نفسه قد قصر منهج التربية في جمهوريته على العلوم الرياضية والموسيقى والرياضة البدنية، وبذلك يجمع بين تقويم العقل والإحساس والجسم، ويقيم بين ثلاثتها توازناً هو عماد النفس القوية. ولقد كان الرقص جزءاً هاماً من رياضتهم، وذلك سواء أكان حربياً أم فنياً، ولقد كان المقاتلون لا يسيرون إلى القتال إلا بعد أن يثيروا في نفوسهم الحماسة والنشوة بالرقص الموقع توقيعاً قوياً، حتى لقد قال أفلاطون بلسان سقراط: إن أكثر الناس تبجيلاً للآلهة في حلقات الرقص هم أشجعهم ضراوة على القتال في الميادين)

والإنسانية منذ أقدم عصورها لم تعرف الرقص منفصلاً عن غيره من الفنون. فمنذ الأزل والناس يجمعون بينه وبين الموسيقى والشعر في ثالوث فني يستهوي أفئدتهم. وربما كان الرقص أقدم هذه العناصر وأكثرها انتشاراً، فالحركة لا ريب قد سبقت اللفظ في التعبير. وفي الجسم إيقاع عضوي يتحرك لنغمات الطبيعة، على غير وعي منا، وعند الإغريق القدماء لم يكن الرقص والغناء والموسيقى مجتمعة مقصورة على مواكب النصر أو ولائم المرح، بل كانت تكون العناصر الأساسية في التمثيل المسرحي أيضاً. وهم لم يعرفوا تمثيلاً يقوم على الحوار والحركة لمسرحة فحسب، فكل مسرحياتهم يتخللها الرقص والموسيقى. وإلى جوار الممثلين تجد دائماً فرقة المغنين وعلى رأسهم عازف الناي. ومن

<<  <  ج:
ص:  >  >>