وتبادلنا الحديث وانتقلنا من موضوع إلى موضوع حسبما اتفق؛ وكثيراً ما عدنا إلى الحرب ومآسيها وأنبائها. ثم تحدث مستر للي عن وحدته وكيف يعيش هو وكلبه. ثم استدرك قائلا:(هذا إذا لم نعتبر الكتب وما في بطونها من ناس، فهؤلاء تغص بهم الكتب أو يزدحم بهم البيت!).
وسألته عن كتابه الذي ألقاه الساعة من يده، فأجاب متهللا:(هذا مختارات من شعر تنيسون. . . لشد ما تعجبني موسيقاه ومعانيه! أجل لشد ما يبهج نفسي ويؤنس وحدتي تنيسون العظيم!. . . إني لأقدمه على الشعراء ما عدا شكسبير وملتن. . . آه لهذا الساحر!).
وكان الرجل في كلامه عن الشعر والشعراء فياض المعاني بادي التحمس. وقد بدا وجهه الوسيم المتورد كوجه غلام في أول الشباب، وظللت أنصت إليه متعجباً من هذا الذي يقضي نهاره بين الأرقام في المصرف ثم يختتمه باللعب وقراءة الشعر. وزادني إعجابا به أنه يقضي وقتاً طويلا من ليله يقرأ ويستمع للموسيقى إلى جانب المذياع.
ولشد ما أبهج الرجل أن رآني أحب ذلك الشاعر كما يحب؛ وأنصت إلي فرحا وأنا أطري بعض قصائده ثم قال:(لابد من الشعر في هذه الدنيا. لاشيء يسمو بالنفس الإنسانية كما يسمو بها الشعر. لا تصاحب من لا تجد في نفسه شعراً. . . إنني طول نهاري بين الأرقام فما كان أشقاني لولا الشعر والموسيقى. ثم هذه الحرب ما كان أتعسني بويلاتها لولا هذا الروح العلوي. . . حقا إن القراءة أعظم متعة)
وكانت الشمس قد مالت لتغيب خلف التل في العدوة القريبة، وانعكست خطوط من التل على قبة السماء، وطرزت حواشي الأفق حمرة الشفق، ثم زحفت ظلال الطفل لتشرب هذه الحمرة، وتراءت القلاع البيض على صفحة النهر الأزلي يزيد بياضها خضرة الزرع على جانبيه! والتفت صديقي الإنجليزي قائلا:(مد عينيك! هذه قصيدة رائعة فلنصل لحظة).
وصلينا خاشعين لحظة طويلة، ونهض صاحبي وهو يقول:(إن هذا التل وهذا النهر ليملآن نفسي بخيال الماضي، فضلا عما يريانني من صور الجمال) ونادى الرجل كلبه ثم قال وهو يشير إليه (إني أحب هذا الكلب لأنه شديد الإحساس بالحياة، ولذلك سميته جوي. . . آه كم أحب أن ألعب مثله فأشعر أني صبي وأنسى أني في الرابعة والخمسين!)