والطاغية إذا ركب رأسه تنكر للنصح وتمرد على المشورة. فهو يسكت أقطاب الرأي ليتكلم، ويؤخر أبطال القيادة ليتقدم. والغالب أنه يجيد القول ولكنه يزور، ويحسن العمل ولكنه يطيش. وما زلنا قريب عهد بشقشقة هتلر وثرثرة موسوليني، فقد كانا يقولان القول ولا يصدقان فيه، ويعدان الوعد ولا يبران به؛ لأن الاستبداد بالرأي ينفى التبعة، والاعتداد بالنفس يلغى الرقابة؛ والتبعة والرقابة مزيتا الديمقراطية. ومن ذلك كانت خطب تشرشل وروزفلت وثائق يستشهد بها السياسي ويعتمد عليها المؤرخ. والديمقراطية تنظر إلى الشي من جهاته الست، وتسلك إلى الغاية طرقها المختلفة؛ ولكن الطغيان لا ينظر إلى الشي إلا من الجهة التي تجذبه، ولا يسلك إلى الغاية إلا الطريق التي تعجبه. ثم يحمل الشعب على رأيه ونهجه بالإرهاب المستمر، والتعليم المسموم، والتربية الآلية، والدعاية المغشوشة، فلا يجوز لصوت أن يرتفع بتعريف أو إنكار، ولا ينبغي لأحد أن يقول للقاطرة الرعناء إلى أين تذهبين بالقطار!
الآن، وقد تحطمت النازية بعد أن تحدث بجبروتها سنة الله وقوة الطبيعة، وارتفعت أيدي الأبالسة عن منشأ هذه الرجفة العامة من الأرض، وأخذت غواشي الليل الطويل تتكشف عن فجر السلام المشرق، وأوشكت الإنسانية المكروبة أن تجد نفساً من الرجاء وروحاً من الطمأنينة، وآن لقادة الحديد والنار أن يتركوا الميدان لساسة الرأي والهوى، الآن يجمل بالأقطاب الثلاثة أو الأربعة الذين يقرون اليوم مصا ير الأمم والشعوب أن يتخذوا لهم من أهوال ست سنين موعظة وعبرة. يجمل بهم أن يذكروا وهم حول الموائد الخضر تلك الميادين الحمر فتتمثل لعيونهم تلك القذائف الجهنمية تذرو أجساد الشباب كما تذرو العاصفة غشاء الهشيم! يجمل بهم أن يذكروا وهم ينعمون بالحفلات الساهرة بعد المناقشات الثائرة، تلك الدور الحزينة التي خلت من عائلها الكادح، وفتاها الشابل، وأنسها الأنيس، وعيشها الآمن، فترد على خواطرهم تلك المآسي الدامية التي مثلتها الحرب في كل مكان! نعم يجمل بهؤلاء الأقطاب أن يذ كروا أنهم أنقذوا المدينة هذه المرة أيضاً بأعجوبة. وليست الأعاجيب والمعجزات مما يكشف أو يخترع؛ إنما هي الفرص والمصادفات تسنح أو تبرح كما يشاء القدر. إنهم إذا ذكروا كل أولئك كانوا حريين ألا يقبلوا في مؤتمر الصلح مندوبين عن أصحاب الجلالة: الاستئثار والاستعمار وبسط النفوذ! وإذن يتمتع العالم بسلم طويلة يضمد